Back Home Next

مصر: من الانتفاضة إلى الثورة 

آراء الكاتب

الدكتور عبدالخالق حسين

http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html

 

في البدء نقدم أحر التهاني إلى الشعب المصري العظيم بانتصار ثورته المجيدة، ثورة الشباب من أجل الخبز والكرامة والحرية والديمقراطية. لقد بدأت انتفاضة الشباب في ميدان التحرير يوم 25 يناير الماضي بعدة آلاف، مستلهمة من ثورة الشباب التونسي الذين الحقوا الهزيمة برئيسهم السابق، زين العابدين بن علي، وإسقاط نظامه واتخاذ الخطوات الجادة لإقامة النظام الديمقراطي. وهكذا عزم الشباب المصري أنهم ليسوا أقل شجاعة وإصراراً وحماساً من الشباب التونسي، فإذا انتصرت الثورة الشعبية في تونس، فلماذا لا تنتصر ثورتهم الشعبية في مصر؟ وهكذا كان، حيث بلغت الذروة يوم 11 فبراير الجاري عندما حققت أهم هدف من أهدافها وهو تنحي مبارك عن السلطة ورحيله عن العاصمة إلى مسكنه في منتجع شرم الشيخ. وبذلك فقد بلغت الانتفاضة مرحلة الثورة وبدأت خطوتها الأولى في مسيرتها الطويلة المضفرة، رحلة الألف ميل لتحقيق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى رأسها إقامة نظام مدني ديمقراطي حقيقي في البلاد.

ولانتصار الثورتين الشعبيتين أهمية بالغة في المنطقة العربية، إذ بدأت شعلة الثورة الشعبية تنتشر في البلاد العربية الأخرى للإطاحة بالأنظمة المستبدة المتحجرة وإقامة الأنظمة الديمقراطية بدلاً عنها، فلا شك أن معظم حكام العرب ينامون هذه الليالي بقلق شديد!! ولحد الآن شملت الانتفاضة اليمن، والأردن، وأخيراً وليس آخراً، الجزائر.

ومن الجانب الآخر، بقي الرئيس المصري السابق، حسني مبارك، (لاحظ، لأول مرة يوجد في مصر "الرئيس السابق" وليس الرئيس الراحل)، يراوغ في محاولة يائسة منه للتشبث بالسلطة بشتى الوسائل، فراح يستجيب لمطالب الشباب بالتدريج، ويعطي التنازلات بالأقساط وبالقطارة!!، فبدأ بطرد بعض الوزراء، ثم أقال الحكومة كلها وشكل حكومة جديدة لامتصاص الغضب، ثم عين له نائباً لأول مرة، مع الوعد بعدم ترشيح نفسه أو ابنه جمال في الانتخابات القادمة التي وعد أن تكون حرة ونزيهة، ووافق على تعديل الدستور...الخ، ولكن الجماهير أصرت على مواقفها، فراحت بالمقابل تصعد من مطالبها، من تنحي مبارك إلى تغيير النظام جذرياً، وصولاً إلى نظام ديمقراطي حقيقي، كما في الدول الأوربية. وهكذا راحت كرة الثلج تكبر مع الأيام، بدأت بعدة آلاف من الشباب في ميدان التحرير في القاهرة إلى أن شملت الملايين في جميع أنحاء مصر، وتحويل الانتفاضة إلى ثورة شعبية عارمة وحقيقية بكل معنى الكلمة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل تنحى مبارك بإرادته حقناً للدماء، أَم أرغم على التنحي من قبل الجيش كما حصل مع بن علي في تونس؟ وهل تولي الجيش السلطة هو انقلاب عسكري؟

من متابعة مراحل الانتفاضة التي دامت 18 يومياً، نعرف أن الجيش المصري اتخذ موقفاً عقلانياً محايداً، يحمي الجماهير الغاضبة من الشرطة ورجال الأمن وأنصار مبارك من جهة، ويحمي مبارك من غضب الجماهير، ومؤسسات الدولة من المخربين من جهة أخرى، كما ولاحظنا العلاقة الودية الحميمة بين الجيش والمتظاهرين، بل أفادت أنباء إلى انضمام العشرات من الضباط الصغار إلى الجماهير. قارن بين سلوك الجيش المصري مع الانتفاضة المصرية، وبين سلوك الجيش العراقي في عهد صدام حسين مع الانتفاضة العراقية في آذار 1991، التي حررت 14 محافظة من 18، حيث واجه الجيش الصدامي الجماهير الشعبية المنتفضة بالقصف المركز بواسطة الطائرات العمودية، والغازات السامة، وقتلوا نحو 300 ألف مناضل.

والجدير بالذكر، فقد أثبتت الأحداث أن مبارك لم يكن يؤمن أصلاً بالديمقراطية، فهو كعسكري محترف، يعتقد أنه هو وحده الجدير بحكم البلاد، ومن بعده أن يكون ابنه جمال، فقد عرفنا من وثائق ويكيليكس أنه نصح الأمريكان بتقوية الجيش العراقي وتسليم الحكم إلى عسكري قوي، وأن الديمقراطية لا تصلح للشعب العراقي ولا للشعوب العربية الأخرى!!. فهكذا حاكم من الصعب تخليه عن السلطة بمحض إرادته وبسهولة. 

لذا، فبإصرار مبارك على التمسك بالرئاسة، وإصرار الجماهير على مواصلة الانتفاضة حتى النصر، كان على الجيش أن يحسم الأمر، فهو وحده كان يحمل مفاتيح الحل لأنه محترم من قبل الشعب، فإما أن يقف بجانب مبارك، وهذا يعني تعريض البلاد إلى خطر مصادمات دموية رهيبة وتلويث سمعة الجيش الذي هو من الشعب وإلى الشعب، أو إرغام مبارك على الرحيل وإنقاذ البلاد من مخاطر جسيمة، ولا يمكن ترك الموقف كما هو إلى ما لا نهاية.  

ولذلك اتخذت القيادة العليا للجيش قرارها الحاسم بأن تتدخل لحسم الموقف لصالح الشعب. فاجتمع يوم الخميس، 10 فبراير، المجلس الأعلى للقوات المسلحة، المؤلف من قادة الأصناف العسكرية الرئيسية في الجيش المصري برئاسة وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، المشير محمد حسين طنطاوي. وأول قرار اتخذه المجلس هو مطالبة مبارك بالتنحي، وبذلك فما جرى هو انقلاب عسكري، ولكنه في صالح الثورة الشعبية ومكملاً لها. فقام ضابط كبير بزيارة الجموع في ميدان التحرير، وأخبرهم بأن مطالبهم الأساسية على وشك أن تُنَفَّذ وأن تتم الاستجابة لها هذا اليوم (10 فبراير). وفسرت الجماهير ذلك تنحي مبارك بالطبع. ولما ألقى مبارك مساء نفس اليوم خطابه الأخير الذي أعلن فيه تنازله عن معظم صلاحياته إلى نائبه، ولم يشر عن تنحيه، أصيبت الجماهير بخيبة أمل شديدة، وشعرت بالغضب الشديد، لذلك تضخمت الجموع في اليوم التالي، الجمعة، 11 فبراير التاريخي، وسارت نحو مراكز إستراتيجية مهمة لمحاصرتها، مثل قصر العروبة (مقر الرئاسة)، والمقرات الأخرى للحكومة، ومحطات التلفزيون والإذاعة..الخ، ومن هنا كان على الجيش أن يفرض إرادته على مبارك بالتنحي قسراً، والذي تم الإعلان عنه بعد ساعات، حيث ظهر على التلفزيون، نائب الرئيس، عمر سليمان، ليعلن في ثلاثين ثانية فقط قرار تنحية مبارك، وانتقال السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. 

ومن كل ما تقدم، نعرف أن مبارك، كنظيره بن علي، لم يتخلَّ عن السلطة بإرادته، بل بأمر من الجيش، وبطريقة مصرية مهذبة، مصحوبة بالاحترام دون إهانة الرجل، تماماً كما عملوا مع الملك فاروق قبل 60 عاماً. وبدلاً من نفيه إلى جدة في السعودية، كما حصل لبن علي، توجَّه مبارك مع عائلته على متن طائرة خاصة إلى منزل يملكه في منتجع شرم الشيخ.  

وهكذا نرى أن الجيش لعب دوراً محورياً في حسم الأمور، لصالح الشعب. كما وأذاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم السبت (12/2/2011)، بيانه الرابع أعلن فيه أن "الحكومة الحالية ستبقى في مكانها مؤقتاً لتسيير الأعمال حتى يتم تشكيل حكومة جديدة"، وأن "مصر ستبقى ملتزمة بكل المعاهدات الإقليمية والدولية"، في إشارة إلى أن اتفاق السلام مع إسرائيل ما زال سارياً. والمجلس يتحمل مسؤولية حفظ أمن البلاد، والتمهيد لانتخابات برلمانية ورئاسية قادمة، حرة ونزيهة، للانتقال السلمي السلس إلى الديمقراطية.

والجدير بالذكر، أن الجيش يلعب دوراً رئيسياً، ليس في مصر فحسب، بل وفي جميع البلدان العربية، ودول عالم الثالث، وهذا الدور يتناسب عكسياً مع المستوى الحضاري للشعب، فكلما كان الشعب متقدماً في الحضارة كان دور الجيش أقل في حياة الشعب وتقرير شكل الحكومة، والعكس بالعكس. فكما قال نابليون: "توجد في العالم قوتان: السيف والعقل، وفي المدى البعيد سيُـهزم ألسيف من قبل العقل".  

ففي مرحلة متخلفة، قام الجيش المصري بانقلاب 23 يوليو 1952، الذي أنهى النظام الملكي المدني الديمقراطي، رغم سيئاته ونواقصه، وحكم العسكر نحو 60 عاماً الماضية، وشهدت البلاد خلال حكمهم العديد من الحروب والكوارث، وتناوب على رئاسة الدولة ثلاثة رؤساء كلهم من العسكر، الأول مات، والثاني قتل، والثالث أرغم على التنحي. ولذلك فالجيش الذي قضى على النظام المدني الديمقراطي وأقام حكم العسكر عام 1952، هو الذي كان عليه أن يقف إلى جانب ثورة الشعب يوم 11 فبراير 2011، لإنهاء مرحلة حكم العسكر أيضاً، وإعادة النظام المدني الديمقراطي إلى الشعب كما كان قبل عام 1952. يعني وكما قال الراحل عبدالحليم حافظ: "اللي شبكنا يخلصنا!!".

ولذلك فيوم 11 فبراير 2011، يعتبر يوماً تاريخياً حاسماً وفاصلاً بين مرحلتين متميزتين من تاريخ مصر الحديث، حيث تم فيه إطلاق رصاصة الرحمة على الناصرية وتركة عبدالناصر، وثورة يوليو 1952، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.  

والسؤال الآخر هو: هل سيفي الجيش بوعوده في الانتقال السلمي السلس إلى حكم مدني ديمقراطي كامل؟

أعتقد أن الجواب لا بد وأن يكون: نعم. فما أبداه قادة الجيش الكبار، من حكمة في التعامل مع الجماهير المنتفضة، وتعاطف الضباط الصغار والجنود معها، بل وحتى انضمام البعض منهم إلى صفوفها، وما حصل من ثورة غضب على مبارك ونظامه الفاسد المتهرئ، والمرحلة الحضارية المتقدمة التي بلغها الشعب المصري، وتقنية الثورة المعلوماتية التي يمتلكها الشباب، والتعاطف الدولي، وخاصة وقوف أمريكا إلى جانب ثورة الشباب والضغط على العسكر للانتقال السلمي إلى النظام المدني الديمقراطي، كل ذلك يجعلنا نعتقد أن العسكر لا خيار لهم إلا بتنفيذ ما تعهدوا به لشباب الثورة، وإذا أخلوا بوعودهم، وتمسكوا بالحكم، فمصيرهم سيكون كمصير مبارك ونظامه إن لم يكن أسوأ، فميدان التحرير موجود للعودة إليه وتجديد الثورة كلما دعت الحاجة.

 وماذا عن بعبع الأخوان المسلمين؟

ذكرت في مناسبات سابقة، أن الإسلام السياسي بدأ ينحسر تدريجياً في كل الدول الإسلامية، وفقد بريقه وجاذبيته لدى الشباب، خاصة بعد فشل الأنظامة الإسلامية في إيران والسودان وغزة في حل مشاكل شعوبها، إضافة إلى إدراك الشباب خرافة الشعار (الإسلام هو الحل)، وكذلك ما ترتكبه منظمة القاعدة وملحقاتها من جرائم إرهابية بشعة بحق البشر في مختلف مناطق العالم، وبالأخص في العراق والجزائر وأفغانستان وباكستان، وتشويه سمعة الإسلام كدين، ووضع الإسلام في مواجهة ضد الحضارة، والمسلمين  في مجابهة غير متكافئة ضد البشرية، كل ذلك يجعلنا نعتقد أن الإسلام السياسي قد انتهى خطره، وبالأخص في النظام الديمقراطي. فالإرهاب لا يترعرع إلا في الأنظمة المستبدة. وكان مبارك وغيره من الحكام العرب يستثمرون خطر الأحزاب الإسلامية كـ"خراعة خضرة scare crew" لتخويف شعوبهم، والدول الغربية من خطر استيلاء الأحزاب الإسلامية على السلطة إن هو رحل، أو في حالة قيام النظام الديمقراطي.. وهذا هراء.  

أما فوز الإسلاميين في الجزائر عام 1992، وفي غزة عام 2006، وحصول الأخوان المسلمين في مصر في انتخابات عام 2006 على 88 مقعداً، فكان ذلك تعبيراً عن احتجاج الجماهير على تفشي الرشوة والفساد الإداري في هذه البلدان. أما في الانتخابات البرلمانية المصرية القادمة فلن يكن هناك تصويت احتجاج، بل تصويت لقيام نظام ديمقراطي حقيقي كامل. ويبدو أن الأخوان المسلمين أدركوا هذه الحقيقة، وعرفوا حجمهم، وتأثيرهم المتضائل على الساحة، لذلك تصرفوا في الانتفاضة بهدوء وبشيء من التعقل. لذا فمن الحكمة أن لا توضع عراقيل أمامهم في الانتخابات القادمة لكي لا يتركوا لهم حجة اللجوء إلى العنف، أو الإدعاء بأنهم منعوا من المشاركة وإلا لفازوا بأغلبية المقاعد، ففي أغلب التقديرات سوف لن يحصلوا على أكثر من 20%، ويضع البعض الرقم الأعلى بـ30%. وهذا لا يمنع من قيام نظام علماني ديمقراطي صحيح. 

لقد أثبت الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش، صحة موقفه عندما أعلن عشية الإطاحة بنظام البعث الصدامي الدموي في العراق، أن العرب يستحقون الديمقراطية والحرية مثل بقية العالم. ودشن المرحلة بإسقاط أبشع نظام دكتاتوري فاشستي عرفه التاريخ، والذي كان يمثل رمزاً للاستبداد العربي، والاستبداد الشرقي. وبعد 8 سنوات من تحرير العراق ودمقرطته، انتفضت الشعوب العربية لتحقيق النظام الديمقراطي الحقيقي، الهدف الإنساني الحضاري النبيل. والتاريخ أكد صحة موقف وقرار بوش. وما انتصار الثورة الشعبية في تونس ومصر إلا البداية، والبقية تتبع. 

ألف تحية للشعب المصري الشقيق على انتصار ثورته المضفرة، والمجد والخلود لشهداء ثورة 25 يناير الأبرار.

ــــــــــــــــــــــــــــ

العنوان الإلكتروني للكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

الموقع الشخصي للكاتب:  http://www.abdulkhaliqhussein.com/

 Back Home Next