-
التكامل المعرفي بين الولادة والشهادة
-
دراسة في الموقف المعرفي للامام الحسين عليه السلام
-
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
-
dr-albayati50@hotmail.co.uk
توطئة:
من أين تتشكل المعرفة؟ فهل هي حدث خارجي او تنامي حسّي بالموجودات؟ أو انها تراكم معرفي تشترك فيه عناصر ذاتية وخارجية والهامية معاً؟
يقول علماء علم الاجنة ان المعرفة عند الجنين تتشكل منذ المراحل الاولى لتكوين الدماغ وتشكل الجملة العصبية، ثم تتنامى خلال مراحل التطور الجنيني حتى الولادة وخروج الانسان من الرحم.
وأما القرآن الكريم وهو يؤكد هذا الاتجاه فيقول: " ... يخلقكم في بطون امهاتكم خلقاً من بعد خلق ٍفي ظلمات ثلاث ...
"..
فان توالي عملية الخلق وتطور مراحلها سيعني تطور البناء المعرفي في العقل الجنيني مما يؤكد بدء التراكم المعرفي والعلمي قبل الخروج من الرحم الى الحياة والانتقال من
خلال تلقي للتأثيرات المحيطة بالجنين وارسال الرسائل عبر الشبكة العصبية مما يشكل تزايدا في حجم المعلومات ثانية بعد أخرى.
غير
ان الخلق ليس كلهم سواء، فقد يتساوون من ناحية الخلقة فكلهم لآدم (ع) في عالم الوجود إلا انهم في هذا العالم متفاوتون، متباينون، عقلاً وفهماً وادراكاً وطبائع نفسية، وهم قبل ذلك
إختلفوا في عوالم التكوين ولولا ذلك لما ظهرت مظاهر هذا التباين في عوالم الوجود.
وفي طبيعة الخلق وعلاقته بالاشكال المعرفية جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: " إن الله خلق النبيين على النبوة، فلا يكونوا إلا أنبياءً، وخلق الاوصياء على الوصية، فلا يكونوا إلا
أوصياء، وأعار قوماً إيماناً فإن شاء تممه لهم، وإن شاء سلبهم إياه، وفيهم جرى قوله: فمستقر ومستودع "
.
ومن هنا فان علم الانبياء والاوصياء عليهم الصلاة والسلام علم الهي خصهم الله به، فما كان من علم النبوة والرسالة فهو للانبياء والرسل لا يشاركون فيه احداً إلا بالامر
الالهي، وما كان للاوصياء فهو لهم ولا يشركون فيه من هو دونهم إلا بامر من الله، وما كان من علم خص الله به العلماء فهم فيه مشتركون والكل مأمورون ان لا يودعونه إلا لمن هو أهله.
العصمة والموقف المعرفي:
ليست العصمة مجرد حصانة من الجوانب السلبية للنفس الانسانية (الامارة بالسوء) أو من تأثيرات نزغات الشياطين بقدر
ماهي تمثل استيعابا كلياً للطبيعة التكوينية والوجودية وتأثيراتها، بمعنى انها ستمثل استيعابا كليا لحركة التاريخ، فلو لم تكن كذلك لما ادرك المعصوم حقيقبة التكوين والوجود على
السواء.
فالعلاقة بين الانسان والوجود علاقة تأصيلية كما هي علاقة معرفيه، وهي بالتالي ترسم مسارات الانسان في سبيل تحقيق غائية الوجود، وكلما كانت هذه العلاقة في أرقى درجات
التكامل كلما اقترب الانسان من إدراك غائية وجوده، وقد تجلى هذا الرقي والتكامل في مفاهيم العلاقة بين الانبياء والرسل واوصيائهم (ع) وبين الله تعالى شأنه، فاذا كانت مصاديق هذه
العلاقة تتجلى في الجدل الصاعد (التعبد) الى الله، فانها ايضا تتجلى في معرفة الانبياء والرسل وأوصيائهم (ع) بحقيقة الوجود وغائيته وايضاً معرفتهم بكينونة الحياة وبتاريخهم باعتبارهم
مشاركين في صنع هذا التاريخ من خلال تفاعلهم الزماني والمكاني والوجودي معه.
الامام الحسين (ع) وصيرورة تاريخ الامة:
لاشك
ان الامام الحسين (ع) كان يدرك العلاقة بين الامة وتاريخها إدراكاً واعياً من مبادي الوصاية والعصمة على السواء. وأما طبيعة هذا الادراك كموقف فلسفي فانها تتجلى في كونه احد اهم عناصر
صيرورة هذه الامة.
إن إشكالية سوء فهم الفلاسفة الغربيين والكثير من المسلمين المحدثين للتاريخ الاسلامي ومفهومه الحضاري تكمن في تجاهلهم لمبدأ فلسفي ومعرفي يقول: " من المستحيل صنع تاريخ الامة
الاسلامية وصيرورتها إلا أن تكون جزءً منها ". أي لا يمكن فهم تشكيل تاريخ هذه الامة خارج تاريخها. بمعنى أن إدراك تاريخ الامة يستوجب المشاركة في صناعة تاريخها بل ان يكون جزء منه.
إن حضور الامام الحسين في تاريخ الامة الاسلامية منذ عصر الرسالة حضوراً أكدته الايات القرآنية والنصوص الالهية كما
وثقته الاحاديث النبوية وافعال وتقريرات الرسول الخاتم (صلوات الله عليه وآله) التي شكلت بمجملها سنته المطهرة وسنة أهل بيته الاطهار عليهم السلام،
مما يؤكد بشكل قاطع حضور الامام الحسين (ع) في تاريخ الامة وتأثيره في
صيرورتها، ومن هنا يمكن ان ندرك مباديء نهضته (ع) ومعايير الانتماء لها من غيرها، كمشروع حضاري يحدد ملامح حركة الامة في عملية الصراع.
لقد استطاع الامام الحسين (ع) ان يحطم منظور الفكر الاموي في خضوع الانسان للقدر خضوعاً سلبياً، وبرهن ان الانسان يشارك في صناعة قدره، وهو هنا يقدم
لنا مفهوما اسلاميا حضاريا في علاقة (الماهية بالوجود) أي ماهية الانسان بوجوده، عندما برهن عن التكامل بينهما، ليصبح احدهما يكمل وجود الاخر في تناغم واقعي لا ينفصل عن حركة التاريخ.
مفهوم الحرية في المنظور الحسيني:
من جانب آخر نراه عليه السلام يطرح مفهوما حداثياً للحرية، مرة لانه يشارك في حركة التاريخ وأخرى باعتباره يستمد
حقيقتها من الله عزوجل، وهو هنا يجسد حقيقة قوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ".
فالحرية اذاً انما هي نتاج لوعي الانسان بحاجته الى التغيير، فحرية الانسان في صناعة التغيير ترتبط بالجانب الذاتي
كما انها تخضع للقانون الالهي باعتبار ان التغيير يفترض به ان يحقق غائية الوجود ليكون تغييرا ايجابياً، أي انه يتفق والمثل العليا وإلا فانه سينحدر في مزالق الاتجاهات السلبية
وبالتالي يفقد قيمته وغائيته.
لاشك ان التغيير في المفهوم الاسلامي هو مسار لتحقيق مبدأ خلافة الانسان في الارض، كمشروع حضاري استمد قيمه من الوحي الالهي منذ العصر الاول للوجود الانساني على الارض، وأما السعي
لتحقيق الدولة الالهية عبر مسارات التغيير وفق الموقف الالهي فانما تمثل حركة القيادة (النبي او الامام) باتجاه التقدم وصناعة المستقبل مما يعني عدم محدودية حركتها كونها ستتحرك نحو
اهداف مطلقة وليست آنية.
فطرح الامام الحسين (ع) لعملية الاصلاح في (أمة جده) انما جاء لحاجة الامة الى الاصلاح بعد ابتعادها عن المسارات الالهية في العلاقة بينها والله وبينها وحركة التاريخ. فالخلافة
الالهية في سعيها لتحقيق الدولة، انما تسعى للتأسيس لعلاقة تعبدية تكون اساساً لعلاقات تعبدية أخرى، حيث ان من واجبات الانبياء والرسل والاوصياء (ع) هو استمرار حضور الامة في حركة
التاريخ وتأكيد صيرورتها.
ومن هنا تصبح الامة الاسلامية حالة تعبوية للتحرر من الانحطاط والتخلف، وهي تقود موقف التحدي حتى الاستشهاد، ولذلك قلنا ان شهادة الامام الحسين (ع) قد استوعبت ضرورات حركة التاريخ كما
انها جسدت قيم الشريعة في العلاقة بين الانسان والخالق.
عمق المعرفة بين الولادة الشهادة:
إذا كانت ولادة الانبياء والرسل واوصيائهم تمثل موقفا معرفيا في الحياة، فانما هي تعكس من جانب آخر تلك الاستمرارية في التناسل العقلي، فالتوارث
التكاملي للمعرفة عبر سلسلة النبوة والوصاية قد جسدت الاصالة الالهية والتاريخية لها، فالقيم والاسس المعرفية لا تنفصل عن تتابعهم وتواتر ظهور نبواتهم ورسالاتهم فالانتقال المعرفي من
نبي ورسول الى آخر والى أوصيائهم يعكس حالة التكامل وهي لا تنفصل عن التكامل المعرفي في حياة الانسان العادي فكيف بالمعصوم؟ فحضور المعصوم في حركة التاريخ منذ الولادة وحتى الوفاة
سيعني تناميا معرفيا يجسد حركة التاريخ ويستوعب مفرداتها، باعتبار المصدر الالهي لها، وما ذلك إلا لإن الولادة ذاتها لا يمكن أن تكون مجرد انفصالاً بيولوجيا لنسيج المولود عن الرحم،
بل لانها تمثل تواصلا بين ابتداء التكوين والوجود مما يشكل تناميا في الخزين المعرفي عبر مراحل التكوين الاولى حتى وأن لم يتعرف عليها العقل الانساني لكنها تبقى في ذاكرة عملية النشوء
منذ تلقيح الحيمن للبويضة، فاذا كان التلقيح في علم الاجنة يعني انتقال للمعلموات المتوارثة جينيا وتكاملها بين الجينات الذكرية والانثوية، فذاك يعني تكاملا في المعرفة ينزع نحو
التنامي عبر المراحل التكوينية والحياتية حتى الوفاة.
غير ان هذا الامر بالنسبة للمعصوم يتجاوز حدود التراكم الاني باتجاه المطلق، فاذا كانت حياة الانسان العادي تسجل هي الاخرى تنامياً معرفياً قد ينحو مرة منحاً سلبياً وأخرى أيجابياً،
فان التراكم المعرفي والتنامي للمعصوم يسير وفق الشكل الايجابي باستمرار، باعتباره خزانة للعلم الالهي، وأيضاً باعتبار ان من وظائف الائمة هي هداية الناس الى الحق بالامر الالهي ولا
يمكن للهادي إلا ان يكون معصوماً ومؤيداً من الله كما في قوله:
"وجعلناهم أئمة يهدون بامرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
وكانوا لنا عابدين".
أما كيف يكون الموت
تكاملا معرفياً فلان الموت ذاته لا يعني انفصالاً عن الوجود بل لانه يمثل تحولاً حقيقياً من حالٍ الى حال، مما يعني نفي العبث ونفي الاشكال المجازية في التحول، ففناء الجسد لا يعني
فناء الروح أو فناء العقل (الفكر)، وبذلك يكرس الموت التجسيد الواقعي للمعرفة بعناصرها السلبية والايجابية فالامام الحسين (ع) قد جسد الشريعة حد الاستشهاد فكان لموته قيمة عليا لم
يتمكن يزيد بن معاوية ولا آبائه من تجسيدها حتى في حيواتهم لتصبح بذلك شهادة الامام الحسين عليه السلام اقوى من عناصر الحياة ممن تبنى مثلاً دنيا وقيماً منحطة.
وفي الختام فان قيمة المعرفة تخضع لمعايير لا يمكن تجاوزها تتجذر عند قيم عناصرها الاولية لتتكرس في غاياتها، وبالتالي يمكن ان تصبح المعرفة ذاتها تعبيراً حقيقياً عن غائية الوجود،
إن لم تكن منهجا لتفسيرها.
-
-