Back Home Next

كربلاء في سجل التاريخ

نظرة في أخلاقية الثورة الحسينية
آراء الكاتب

د.عبد الجبار العبيدي
jabbarmansi@yahoo.com

 

كربلاء مدينة الاحزان كما يسميها المؤرخون، لكنها بنظر التاريخ هي مدينة الافراح والهبات وعطايا التاريخ، ففيها صنع الحدث المفصلي للتاريخ الاسلامي. وهي ليست تاريخا قديماً يمر علينا في كل سنةٍ لنحية بُكاءً وعويلا على الحسين وأهل البيت العظام. وأنما هو حدث يتعايش معنا اليوم ومنذ القدم يؤثر فينا ونؤثر فيه، ألم يكن الحسين وثورة الحسين للجميع؟ 

 

يعتقد بعض المؤرخين ان رغم عراقة تاريخ العراق الضارب في القدم منذ عصر السومريين، الا ان تاريخه المكتوب بدأ بكربلاء عام 61 للهجرة، ومن حقهم ان يقولوا هذا، لان التاريخ بقيمه ومعانية يتجسد حياً من خلال التضحية الحسينية في عاشوراء، الحدث الحسيني الذي قل نظيره في العالمين.
هذا المعنى التاريخي هو الذي يعطي قصة عاشوراء عمقا وقوة وفي المعنى قولا وتطبيقاً حين تحولت المبادىء الى تشريعات مضحية بالنفس في سبيل الاخرين.

 

فعاشوراء اكبر من كونه قصة تحكى وقصائد تقرأ وجيوب تشق ودموع تسيل وسيوف تضرب، انما هي أحداث تعاش وتعايش لتصبح عقيدة عند المؤمنين، انها قصة من قصص الانبياء الخالدين التي سطرت ملحمة المؤمنين لتنير الدرب للمستضعفين.

من يتابع ملحمة كربلاء بحق وحقيقة لا يدانيه شك بأنه لايمكن لامة ان تنهض فقط بقوتها البشرية وما تملكه من قوة وادواتها، اذا لم تملك قضية محركة وقيم معينة تلعب دور الدافع والمثير لقناعة المجتمع بها، يقول ماوتسي تونج: ان الصين ما تقدمت بشعبها الكُثر، بل بالقوة المحركة له. القوة التي تؤجج بين ابنائها احساسا مشتركاً لتبني لها قاعدة مجتمعية تساندها في التنفيذ، تنفذ الى العقول والقلوب بشعارات مثخنة بالايديولوجيا المميزة بين عصر الماضي والحاضر، بين عصر الجاهلية وعصر الاسلام، فكانت نهضة الحسين تمتلك تلك القوة الدافعة لتصبح عقيدة لكل المخلصين، ولابد لهذه الحركة من شخصيات كريزماتية تشد الناس اليها، لذا فقد كانت شخصية الحسين في ذلك الظرف المضطرب وخطوته نحو استعادة الامة لدورها الرسالي هي الشخصية الكريزماتية المنتظرة للامة وهذا ما نفتقده في زماننا الآن.

هنا نرى ان القيم والاحاسيس العميقة العظيمة تخترق الاختلافات الثقافية والدينية في العالم الاسلامي كله دون تفريق حتى لم يعد بمقدور احد اليوم وبغض النظر عن معتقداته ان يصُد عن هذا التاريخ العظيم، لذا فأعداء الحسين يستميتون الان من ان لا تتحول النظرية الى تطبيق، فلو طبقت النظرية، لأنقلب العالم الاسلامي كله نحو الشيعة وها ترى بوادرها الان واضحة في أقطار اخرى بعيدة عن العراقيين، وهذا ما تخشاه الحركات الاصولية والتكفيرية الآن، لذا فهي تجند كل امكانياتها لقتل الحركة قبل ان يعيها الغافلون بها اليوم. بعد ان اصبح حتى العالم المسيحي مقتنع بها، وها هم كتاب المسيحية بدأ يتحسسون القضية ويكتبون بها، وتقف (الكاتبه الهولندية المعروفة ليزي هازلتون في كتابها ما بعد النبي) على رأسهم، فقصة الحسين تتشابه مع قصة السيد المسيح الذي ارادت اليهود قتله ففيهما المعاني الانسانية التي يراها الشيعة وتراها المسيحية في الجانب الانساني منهما متشابهة ومتكاملة.

على الشيعة المخلصين من محبي أهل البيت ان ينتقلوا اليوم الى مرحلة جديدة بعد ان اصبح حكم العراق بأيدهم الى مرحلة تطبيق أخلاقية النظرية الحسينية، لا واجهة لرفع الرايات الدعائية لها، لا لجعلها مغانم شخصية، لا لمحاربة الاخرين بتجسيد الشعوبية، لا لجعلها وسيلة للأستحواذ على المنصب وأداة الحكم فهذا زمان قد فات ومات وولى الى الابد مع البويهيين والسلاجقة المحتلين، لان الشعوب تريد قولا مدعوما بالعمل لا أقوالا وخطب تذروها الرياح. لكن يبدو ان التغيير لم ترافقه القوة المحركة ولا الشخصيات الكريزماتية المعتمدة في التغيير.

ان تطبيق النظرية الحسينية سينور العقل العربي بالقضايا والافكار الانسانية التي جاءت من اجلها النظرية التصحيحية العراقية الجديدة التي رحب بها شعب العراق ففاجئته بالخيبة والخسران، بعد ان تشبثت بمظلومية أهل البيت وأتباعهم كما تدعي، لتصبح واقعا معاشا في القول والعمل من اجل الجميع دون تفريط لا دعاية تروج وكلام يقال من اجل سلطة او مال، لا بل استطيع ان اقول منها يجب ان ينطلق الاسلام منطلقا من هذا الرمز صاحب القوة الدافعة لروح الاستشهاد التي فرضها الحسين على الاخرين، حين أصبحت منهجا لا قولاً، فهل الشيعة قادرون اليوم على فهم النظرية كما ارادها الحسين؟ أتمنى ذلك؟ ومن يخرج عليها فليس له في الحسين من نصيب؟

ان الكاتبه الهولندية تتسائل اليوم وبكل صراحة، هل كان لمحمدٍ رسول الاسلام صاحب الامة الواحدة والرب الواحد تصورا انه سيترك خلفه هذا الانقسام المأساوي والدموي الرهيب بين المهاجرين والانصار وبلا نهاية؟ ونحن نقول: لا، أن عقداً وعهدا وميثاقا كتب لهم لا يجوز التجاوز عليه هو عهد المؤاخاة، وكان رسول الله (ص) شهيدا عليهم واول شروط الشاهد ان يكون حاضرا؟ هذا سؤال يجب ان نجيب عليه قبل ان ندعي الخلافات بين الشيعة والسُنة، وهل العقد الذي تم في المدينة فيه من نقصٍ، فتغلبت روح القبيلة على روح المؤاخاة، وهل كان هناك سُنة وشيعة في عهد المؤاخاة الجميل؟ فاذا قبلنا به سنصل الى نقطة يعلوا فيها معدل النقص على القوة فيبدأ التدهور وتنتهي الامة الى الشتات وهذا ما نمر به اليوم، ففي حالة غلبة قانون القبيلة المروج له اليوم، سنخسر قانون الدولة وهنا المصيبة اعظم من الطائفية والمحاصصة الوظيفية على الوطن الممزق الان؟.

أذن هذا ما لا يجوز لنا أحياؤه او تطبيقه لأنها بدعة مميتة لنا جميعاً، فليس هذا ما كان منهج للمسلمين، وهذا ما كان يهدف اليه التغيير، لا لأحياء هذا القانون الضار بمستقبل الوطن، بل لأحياء وحدة الوطن ممثلة بقانون الدولة، لا قانون القبيلة والعشيرة التي اماتها الزمن، وسعى الزعيم عبد الكريم قاسم الى رفعها بقانون.

لقد اصبحت قضية المهاجرين والانصار في عهد المدينة هي قضية الشيعة المعروفة اليوم في كربلاء، معروفة في قلوب السُنة ومزروعة في قلوب الشيعة، ولكن مع الاسف لا احد منهم يتدخل لانهائها لصالح الجميع كما تقول الكاتبة القديرة، فقد مات محمد وحورب اهل البيت، وكأننا خُلقنا لنتقاتل، خُلقنا لنتباعد، خُلقنا لنشطر الاسلام الى شطرين كل منهما يعادي الاخر، لماذا؟ ألم يكن كل من المهاجرين والانصار متآخيين، رغم ما حصل بينهما من أفتراق الحكم؟. هل يقبل صاحب الدعوى والحسين معا ان يستديم الخلاف لتفرقة المسلمين وأضعافهم؟ انها قصة تراجيديا المسلمين اليوم والعراقيين بوجه خاص، ولو كانت النظرية الحسينية مطبقة عندهم، لما شاهدنا الاقتتال بعد تدمير المرقدين الشريفين في سامراء، عن عَمد وقصد، ولم نرَ تحقيقا حقيقيا يكشف لنا اللثام عن المسببين، لان مراقد أهل البيت هم للجميع شيعة وسُنة وليست للمفرد من الاخرين.أذن لماذا لايكشف التنين؟

اذا امعنت النظر في أخلاقية النظرية الحسينية مليا ترى ان اصحابها يعيشون قصة تجمع المضادات: الولاء ضد الخيانة، والحب ضد الكراهية والحرب، والنبل ضد الفساد، والاخلاق ضد السياسة وهل نحن نتعايش معها الان؟ ام عكسياً؟ فهل من حق احد ان يعفي شيعيا من الاعوجاج لانه شيعي؟ وهل من حق احد من أهل السُنة والجماعة ان يناصب العداء لعاشوراء لانه سُني؟. فالحسين ما جاء شيعيا ولا سنيا بل كان مسلما موحدا للجميع، لذا من يخرج على الاهداف يجب ان يعامل بنفس معاملة الاخرين. اذا كان الكل يتبرأون من الخلاف أذن لماذا الكثير من ابناء شعبنا العزيز مهجرين مهانين عند الاخرين؟ هل سمعتم من سالف الازمان ان عراقيا هجر اخاه ليحتل داره وليجعله ذليلا عند الاخرين كما هم العراقيون المهجرون اليوم؟ يستجدون ابواب السفارات، والغرباء في بلدهم يعبثون بملاينهم ويرتعون، والأنكى ان مسؤولينا هم الذين اليوم يشجعون، لكن اذا حان وقت الصلاة فهناك الف راكع من المصلين، والصلاة لاتُقبل الا من المتزكين.

هنا تكمن مأساة كربلاء والحسين معاً بعد ان اصبحت تاريخاً رمادياً عند العراقيين، لكثرة ما تداخلت الامور معها فأصبحت وسيلة من وسائل قهر الاخرين، لا عونا في وحدة المسلمين! لذا نحن لا نقبل عربيا او اجنبيا عندنا يعمل ويعيش قبل أرجاع العراقيين وقضاء حاجاتهم وانهاء البطالة والتشرد بينهم، ومن يعمل بها فتلك دعاية للحاكم لا أصلاح للرعية او المواطنين، في وقت أصبح فيه العراق يملك الملايين. أين وعود توزيع الثروة على المواطنين؟ يبدو انها ذهبت الى السارقين الهاربين الى الجحيم، كلها ذهبت مع رياح المُغييرين؟ أم ماذا؟ أفتونا يا رجالنا المخلصين؟.

على الشيعة اليوم قبل غيرهم ان يعوا كربلاء والحسين ويرموا خلف ظهورهم ما نسمعه وسمعناه سابقا من المغفلين، لان حركة الحسين وثورته ضد الظلم الاموي كانت اسلامية عامة وليست شيعية خاصة. واذا ما أمنا بهذا التوجه سنربح الطريقة الوحيدة لمعرفة المصير المهدد اليوم من اعداء الحسين، أعداء اهل البيت العظام، ومن يتابع الحملة الوهابية المسعورة ضد الشيعة اليوم يصدق ما نقول؟ يقول مفتيهم الكبيرفي ندوة تلفزيونية شاهدتها بنفسي: ان الشيعة أهل أهواء، لا نشاركهم صلاتهم ولا نأكل ذبيحتهم، ولا نتزوج نسائهم ولهم قرآن غير قرآننا يسمونه قرآن فاطمة، وهم في المتعة غارقون، ونسوا ان اركان الايمان هي خمسة كما حددوها هم: شهادة ان لا أله الا الله ومحمد رسول الله، واقامة الصلاة، واداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع اليه سبيلا. ونحن نسألهم اي من هذه الفروض اسقطته الشيعة من عقيدتها حتى تسمونهم أهل أهواء؟ أما المتعة فقد جاءت بنص قرآني في الاية 24 من سورة النساء (فما أستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة)، ومع هذا فقد اهمل جانبها اليوم عند الغالبية من الشيعة المفكرين، وعندي مستنكرة بثوبها الحالي المهلهل الذليل؟ هنا مكمن الخطأ عندهم لا عندنا. ولكن هذا لايبرر العداء ابدا. في وقت نسوا انهم اليوم يحيون زواج المسيار في الخليج والزواج العرفي في مصروهما اكثر بشاعة واشمئزازاً من زواج المتعة فهل يتذكرون؟.

لازلنا نتعايش مع قصة الحسين التي حدثت قبل أكثرمن 1400 عام، وكأنها حدثت بالامس القريب، هذه هي احدى أكبرمفارقات التاريخ كما يقول المؤرخون والتي تغيضهم أشد الأغاضة، فالحسين هو حسين الجميع، لكن يزيدهم لن يُزيدهم الأ أثما بحق التاريخ، فاذا اردنا للحسين ان يتقبل منا دعاءً ويكون حاضرا معنا، علينا ان نحاور هذه الخلافات بيننا وخاصة بخصوص الخلافة واستحقاقاتها وما امر القرآن بها. ولا نبقى نتعايش مع النص التاريخي الذي قال: (ما سُل سيف في الاسلام مثلما سُل على الخلافة) وحين رشح الرسول عليا للخلافة في غدير خم كان ترشيحه له من باب الاعتراف في الكفاءة والامانة والمقدرة على ادارة الامة لا من باب القرابة او الصداقة او التضحية، وهنا نقول: رشحَ ولم نقل عينَ،لان التعيين يتضارب مع النص القرآني (وامرهم شورى بينهم، وشاورهم في الامر)، ان هناك فرقا بين الترشيح والتعيين؟. هذه نقطة يجب ان يفهمها الشيعة حتى لايضلوا يخلطوا بين الامرين دون توضيح، وتؤخذ نقطة قاتلة عليهم في التصديق،بعد ان أنتهى الامر ولم يعد حين أصبح التاريخ تاريخاً.

لا احد يستطيع ان يوظف الفلسفة لتفسير الحدث التاريخي ضمن دائرة الانفتاح العقلي الا اذا قرأ التاريخ بين وفاة الرسول (ص) وبين ما يحدث الان في عالم الاسلام من علامات الاستفهام على ثورة الحسين وتوظيفها للخط المعاكس من قبل المنتفعين، لذا على الشيعة قبل الاخرين هو اختصار الخلاف بالحوار العقلي لا بالتعصب الفكري كما نراه اليوم، والتعمق في القضية الحسينية كونها الهاماً لكل الناس نحو الحق والعدل والكفاية بينهم لا استغلالا وقهرا وتحججا بالتاريخ، وان نتجنب لكل ما يسيْ الينا مصدره الغرباء من الشامتين..لان الحسين هو رمز التضحية للجميع وليس لبعض المسلمين.

ان ما حدث للامام الطاهر في كربلاء كان جدلا حتميا بين نظرية الحق والباطل، فمن واجبنا ان نناقش هذا القانون دون تدخل المعارضين، فهو ليس قصةً عاطفية كما نراها الان، على أنها قصة حب الشيعة للحسين وتجدد الذكرى له بعاطفة الدموع ولطم الخدود والمسيرات المليونية والتمثيليات والتشابيه، لتجديد الذكرى، لكنها قصة الحسين التي ارادها للمسلمين هي غير التي يدعون، انها جاءت من عمق العدالة والتضحية والبراءة من الاعوجاج والباطل ليخلق شخصية اسلامية متميزة عن الاخرين، فلا زالت الشيعة بحاجة ماسة جدا لمناقشة الحدث، ولكن لااحد منا يعرف الى الان لماذا حدث الحدث؟ نعرفه حربا بين الحسين ويزيد لا اكثر ولا اقل؟ هكذا أرادها لنا رجال الدين، اما لماذا حدث الحدث؟ فذاك لازال في المجهول عند الغالبية من محبي الحسين واهل بيته الكبار بعد ان استغلت الذكرى لصالح المنتفعين؟

لم يكن خروج الحسين من المدينة الى مكة ومنها الى كربلاء العراق بالامر الهين امام عدو لئيم كفر بمحمد والحسين واهداف واركان الاسلام، من اجل تثبيت امبرطورية اموية قائمة على الاجحاف والظلم لاعلى العدل والانصاف. فهل كان الحسين مقتنعا بأنه بسبعين فردا سينتصر ويتغلب على جحافل الامويين؟ هنا يجب ان نقف ونفكر تفكير المؤرخين العلميين لا العاطفيين كما تقول الكاتبة الهولندية؟ وهل يكفي لانه ابن علي يجب ان يكون خليفة للمسلمين؟ لا، بل لان الشروط الموضوعية في نهضته تؤهله لقيادة المسلمين، كشروط محمد حين جاء قائدا للمسلمين من بين كل رجالات مكة الاخرين؟ الم يكن قتل مسلم بن عقيل وصلبه في الكوفة نذير للحسين بالتوقف عن اصراره مع القادمين؟ هل كان حسين المسلمين مجرد مغامرا ام كان مؤمنا بنظرية تقلب التاريخ لصالح المسلمين؟، هل كان حسين المسلمين مجبراً او مخيرا في هذا المصير؟ هنا يجب ان يكون الحوار علميا لا عاطفيا لنبني نظرية الحسين من جديد حتى نحولها الى تطبيق؟ فهل من مخلصين؟ بعد ان نستبعد رجال الدين المتزمتين.

يقول بعض الفقهاء ويقف ابن تيمية على رأسهم ان تحرك الحسين امام الكارثة المحتملة في كربلاء، كان فقدانا للمؤهلات في التقييم، لذا ما كان عليه ان يُجابه من هو يفوقه عددا وعدة في حرب خاسرة مضحيا بالنفس والاهل والاحفاد، كان عليه ان يعترف بالتاريخ ويخضع له وهذا هو رأي ابن تيمية في ثورة الحسين حين يقول: (ان الامام الحسين قتل بسيف الحاكم الشرعي) ويقصد يزيد، ونسي هذا الفقيه ان يزيداً كان يحكم في ملك عضوض لايتمتع بشرعية المسلمين، والحسين لا يؤمن بنظرية (الضرورات تبيح المحظورات) على رأي الأمام الغزالي، حين كان يعتقد ان الحسين بلا دولة ومن لايملك الدولة ليس باستطاعته تحقيق الشريعة. لقد أخطأ ابن تيميه في نظريته، والغزالي في مقولته، فأن الحسين ما جاء ليقاتل دولة او حاكم كما يصوره بعض رجال الدين، لكنه جاء ليقاتل ظلم الدولة والحاكم معاً، وهذا هو المهم، وهذه هي النظرية التي يجب ان تطبق اليوم، لا البكاء والعويل لكسب عواطف العامة من المغفلين، لذا فليس المهم ان يكون الحاكم علينا اليوم شيعيا او سُنيا، كرديا او تركمانياً، وأنما المهم ان يكون عادلا مطبقا لنص التشريع دون تمييز، فالنظرية الحسينية ترفض العنصرية والطائفية والمحاصصة الوظيفية والتوافقية المبنية على المصالح الذاتية لانها تهدم وحدة الدولة وتقرير المصير؟ هذه هي نظرية الحسين، فمن يؤيد الباطل هو ويزيد في كفة الميزان قرين.

ان النظرية الحسينية تقول عكس ما يقوله ابن تيمية واعداء الحسين؟ تقول ان نهضة الامام الحسين كانت تمثل الشجاعة المطلقة والمبدئية التامة والنبل المطلق بالتضحية بالنفس والوعي الكامل باهمية التغييرمن اجل الناس، وكانت تعني ان الظاهرة محكومة بظروفها، انها مشروع قابل للفعل في ظروف العصر ولا يجوز التجاوز عليها، لأنها قانوني رباني لا يقبل التغيير، ليس فيها من منافع شخصية او سلطة او جاه في دولة، فهو الذي بنظريته ونهضته فضح فساد الحكم الاموي، وباستشهادة ثبت الاسلام في الارض حقاً وهداية، وعقيدته القائمة على العدل والاستقامة، ورمي الباطل خلف ظهره لا طمعا في دنيا اوحياة، الا تحت مبادىء العزة والكرامة، ولا حبا في جنة وحور العين، وأنما في تثبيت نقل المبادىء الى تشريعات، وفصل سلطات الدولة عن حقوق الناس وترسيخ مبدا الثوابت الوطنية في الامة، ملتزماً بمنطوق الاية الكريمة (هذه أمتكم أمة واحدة وانا ربكم فأعبدون) أي ان وحدة الامة أمر لاخيار في هذا ولا ذاك. وهذا ما جاء به الرسول (ص) للمسلمين، حين قال ان أجماع أمتي رحمة، لأن اجتماعها لابد ان يكون خيراً.

ان شيعة العراق اليوم عليهم ان يعترفوا بأن النهضة الحسينية جاءت لمواجهة تحديات الانغلاق والجهل وضيق الافق، أنها صوت عدل وقيم وانسانية أخلاقية، صوت تعايش وحوار عاقل وعادل، صوت أستقامة ووفاء بالقسم . ألم يعرض الحسين على خصومه وجادل بالتي هي احسن فرفضوها؟ علينا ان نعترف والاعتراف دليل القانون، بأننا قد فشلنا في تحقيق ما كان يهدف اليه الحسين في ثورته العظيمة حين حولنا النظرية الى مكاسب شخصية ونسينا الاصل بتحويلها الى عاطفة ونسينا المنهج والتطبيق بتحويلها الى بكاء وعويل؟ وعزلنا المرأة واغتصبنا حقوقها دون وجه حق أمتثالا للتخلف والعادة والتقليد، وها نرى النتائج اليوم جاءت بعكس التخميين؟ ولا ندري ماذا سيضمر الغد للمدعين.

فالاسلام بنظر الثورة الحسينية، ليس كلاما يقال في المجالس، ولا سياسة تتبع، ولا منبرا للخطابة، ولا وعودا بالاصلاح، بل هو الامن والامان والاطمئنان والكفاية والعدل لكل الناس دون تمييزفي القول والعمل دون أبطاء وتغيير، أذن هي أيديولوجية وأستراتيجية في التفكير وليس مذهبا في التعبير؟ والايديولوجية ترفض القول دون التطبيق.

ان المذهب الشيعي ليس مذهبا دينياً أنما هو آيديولوجيا متكاملة، أسسها صاحب الدعوة وتبناها الامام علي ومن بعده الحسين والائمة الصادق والكاظم (ع) قولا وتطبيقأ، ومن يخرج عليها فهو خارج عن المنهج الصحيح. ولكن من يقرأ وقد تعودنا على ما تتناقله الألسن وتسمعه الأذان مصدقين.

ألم تكن نظرية الاسلام هي نظرية الحسين؟ أقرؤها بأنفسكم في دستور المدينة وفي نهج البلاغة، حين تقول: من لم يستطع من الحكام تحقيق هذا الهدف عليه ان يتخلى عن حكم الناس، هكذا قال الامام علي في مسجد الكوفة بعد حربه مع الخوارج، حين اعترف ان حرب الخوارج كانت خطئاً مميتا للطرفين. يقول الامام (ع): (ايها الناس لا تقاتلوا الخوارج فمن طلب الحق فأخطئه، ليس كمن طلب الباطل فأدركه؟ انظر نهج البلاغة ج1 ص144). هذا هو الاسلام الذي ما ميز حاكم على محكوم ولا اسود على ابيض، ولا غني على فقير، ولم يسمح لاحد باسم الدين ان يعتدي على اموال وحرمات الناس كما نراها اليوم دون تبرير، الم يقل الرسول (ص) لوان فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها؟ فأين الشيعة اليوم من هذه النظرية الخالدة أم نسوها عند التطبيق؟ ولا عذر لهم اليوم بعد ان اصبح الحكم بأيديهم، نعم الكل في الميزان سواء بنظر الاسلام، وهذا هو الهدف الذي قاتل من اجله الحسين لانه كان وريث مدرسة أهل البيت هداية العالمين، لقد توقفت النظرية الشيعية من بعده في التطبيق رغم كل محاولات المختار الثقفي وحجر بن عَدي في الكوفة ورفاقه الميامين حين حولوا النظرية الى شعارات وشعائر، والاسلام في غنى عنها، فكان استسلامه للشهادة هو الفداء الامثل امام البشرية جمعاء ولا شيء اخر فليعوا الحكام من الشيعة اليوم ومنظريهم في كل مكان وقبل فوات الاوان، ان النظرية الحسينية حقاً وحقيقة، لا وهماً وخيالا كما يتصرف بها اعداء الحسين؟ فنحن اليوم بحاجة الى المنهج وليس بحاجة الى العويل والتبرير!

حين اشتدت الليلة الاخيرة على الحسين واهل بيته الكرام في عشرة عاشوراء وضيق جيش يزيد عليهم الخناق، توجه الحسين لاصحابه عارضاً عليهم تركه ممن لايرغب منهم في القتال، قائلاً لهم يا أخوة العقيدة والدين، لكم الخيار في البقاء او الهروب ونحن امام الموت لمن الملاقين، وجاءت كلمة الهروب على لسانه الطاهر (تقصدية) ليعلمهم كم هي المبادىء ثمينة عند المخلصين في الشدائد والمحن، لأن الحسين كان واحدا من الذين يركن اليهم عند الشدة والمبدأ وهذه هي صفات المؤمنين، فأبوا عليه ذلك بصوت واحد: يا ابا عبدالله كلنا فداء لك وللاسلام. لقد صدقوا ما وعدوا الله به فماتوا مؤمنين.

هنا ولد الرمز الحسيني العظيم، أو قل الرمز الاسلامي العظيم الذي يجب علينا ان نقاتل اليوم من اجله لا على الحسين، لان الاعلان عن انتهاء نظام النبوة هو الأيذان بأن الأنسانية قد بلغت سن الرشد وسلمت للقادمين لتحمل مرحلة الأعباء. لان محمدا كان كلمة السماء الخاتمة الى الانسانية الراشدة، وكان العقل بعد ذلك وبفضله صار العقل حراً يتوجه بهدي القرآن ويتأسى بالتطبيق الرسولي والعقل دوما يعرف بفعاله لأنه مضطر لقبول الحق لمواجهة تفاعلات المستقبل، هذا هو الدرس الذي تعلمه الامام علي من محمد ليسلمه لابنه الحسين قولا وتطبيقاً فكانت نهضة الحسين واقعا لهذا التطبيق. وهذا هو الذي لم تعرفه الشيعة والسُنة من المسلمين الى اليوم.بعد ان لعب الفقهاء في أذان الناس يمينا وشمالا دون تفكير.
نعم انه رمز الاحتفال بالحياة على الموت، وبالنصر على الهزيمة، وبالحق على الباطل، وبالمبدأ على الأدعاء، حتى يصفها المسيحيون بأن ليلة الحسين الاخيرة تساوي عندهم ليلة العشاء الاخير للسيد المسيح.

نعم ان قمة المأساة الحسينية ليست حينما استشهد الحسين وأنما لحظة القبول بالموت واتباعه الميامين من اجل العدالة المطلقة في الاسلام. حتى قال احد المؤرخين الغربيين في الحسين واتباعه (لوكان الحسين بن علي فينا لحملناه في تابوت ودرنا به العالم ليصبح فخرا وتاريخا لنا). فهل وعى العراقيون هذا النص أم سنبقى نلطم على الحسين دون تطبيق لنظريته الحياتية الى أبد الأبدين؟ وهل كان من واجب دعاة التغيير ان يقبلوا بغير نظرية الحسين بعد التغيير، لقد كان بمقدور الحسين ان يقبل ما يعرضه يزيد عليه دون عناء من المصير؟ ولكن ألم يرفض جده الرسول كل أغراءات قريش من اجل دعوته الربانية العظيمة دون تغيير.

انظريا أخي المواطن ما قالته زينب البتول (ع) أخت الحسين وبنت علي أمير المؤمنين ليزيد في حاضرته في الشام، قالت سلام الله عليها: يا يزيد ولم تسميه يا خليفة المسلمين تصغيرا له: انك ما قتلت الحسين اليوم لكنك قتلت رافع نظرية الحق التي جاء بها جده محمد والحسين معاً، وغدا كلنا امام الله سواء فأين المصير؟ كلمات نابعة من القلب الطاهر جسدت نظرية الحسين؟ وأنظر ما قال الامام الشجاع موسى بن جعفر (ع) لهارون الرشيد: يا رشيد ولم يقل له يا الرشيد تصغيرا له: لن ينقضي عني يوم من البلاء، حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء، وغدا كلنا أمام الله الحق سواء، أما كان الأخرون أشد ظلماً وغضاضة من يزيد ومن معه، فاين هم اليوم من لعنة التاريخ؟

وبعد الحسين هل وضع الشيعة من نظرية في جدل الكون والانسان كما وضعها الحسين؟ حين تلى على أصحابه قبل النزال الاخير في كربلاء الآية الكريمة (ولا تدع مع الله ألهاً اخر لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون، القصص88) حين اعطى تصورا لمسيرة الحياة وهلاك الكون ومقولة البعث حق، بعد ان أكدت الصلاة أقرار العاقل بهذا القانون والعبرة من هذه المقولة، هو تأكيد الحسين على ان الحياة يجب ان تحيا بقانون لا يخترق وأمر آلهي نافذ وفاعل مستجاب، ومشكلة الفلسفة الانسانية الكبرى التي جاء بها نهج البلاغة متمثلة ما يعرف بأسلامية المعرفة المستخلصة من القرآن الكريم والتي اتبعها الحسين؟، وحقوق الناس، ودساتير مكتوبة لا يحاد عنها وكان دستور المدينة المغيب اليوم عنا في مقدمتها؟. كلها تركناها وتمسكنا بالعاطفة دون الحسين لان في ذلك ربحا دنيويا لنا وهذا ما رفضه الحسين وابو الحسين. وهذا ما نراه اليوم في سيرة من يدعون أنهم أتباع الحسين؟ بعد ان حولوا المبادىء الى مصالح ومنافع شخصية بعيدة عما طرحه الحسين في ثورته المباركة.

فذكراك ياحسين يا شهيد الطف في كربلاء تستنهض الهمم عند الشيعة والسُنة المخلصين، وستبقى انت الراية الكبرى عندهم دون الاخرين، حتى قال المؤرخون ان من يخرج على مبادىء اهل البيت من شيعتهم والتي مات من اجلها الحسين سوف لن يُغفر له الى ابد الابدين

وخلاصة القول على الشيعة ان لا تبقى احادية الرأي في التفكير وتنقل الشهادة من النظرية الى التطبيق، ولا تطيع حاكما او آمرا الا من التزم بمبادىء الحسين قولا وعملا، لان استشهاده عبرة لنا عن تفاصيل مكونات التاريخ والذي ادخل فينا مساحة الايمان الصحيح والعشق والمحبة والتضحية لمن وصفهم القرآن الكريم بأنهم اهل البيت المطهرين من كل رجس أثيم. والذي قال فيهم المؤرخ الطبري: (ان اهل البيت كانوا في صدور الناس أهيب من الاسد.) فهل نحن على مبادئهم من المطبقين؟

اذن من هنا يحق لنا ان نقول: لماذا الحسين دون الاخرين؟ وما هي أخلاقية نظريته الانسانية؟
لقد جاء الحسين لاحياء نظرية القوة العادلة ضد نظرية الاستبداد والضعف التي حلت بالمسلمين بعد الراشدين، جاء ليوحد لا ليفرق، ليقوي لا ليضعف، ليبني لاليهدم، خطان لا يلتقيان، الاول مُساند آلهيا وانسانياً والثاني فرفوض آلهيا وبشريا، هذه النظرية تولدت من النخبة الممنهجة ربانيا لا تتغير، فلا هوى يغريها، ولا قوة ترهبها، ولا دنيا تتكالب عليها، وكما قال امير المؤمنين علي (ع): (لا تخف ايها المسلم من عاديات الزمن ان كنت على الحق، فأن صوتاً واحداً شجاعاً اكثرية).

ان الموقف الحسيني في كربلاء اخرج العقيدة من المفهوم الضيق الى المفهوم المطلق العام حين قال ما قاله علي: (ان الله هو العدل الذي لا يجور) لذا علينا نحن الشيعة ان نحي شعارات وشعائر الحسين بنفس القوة التي ننفذ فيها نظرية الحسين . نعم ان نظرية الحسين هي النظرية الازلية بين نوح واصحاب السفينة وبين قومه الخارجين عليه وعلى السفينة.

حكومة وطنية في العراق تحكم، وبنظرية اهل البيت تدعي، عليها ان لاتتجاهل ابدا اية مفردات من نظرية الحسين وواجبنا ان ننبههم على تطبيق النظرية، بعد ان ابتعدوا عنها، ان وحدة الكلمة اليوم مطلوبة، والحفاظ على الامن واجب، والحفاظ على المال العام والنفس وألألتزام بدولة القانون هي الاساس، واحترام الثوابت الوطنية اخلاق، لكنها يجب ان تكون حقاً وحقيقة لينتشر العدل والامان بين الناس، لا أن يتخم المتخمون ويفقر المستضعفون، ويقتل الناس بلا أمن ولا أمان والحاكم تحفه سياجات الحيطة.

علينا ان نعي الدرس ونقول لمن يحكم اليوم، بأن يعيد النظر بالامور ويتمسك بسيرة اهل البيت ويترك المنحرفين ويضرب على الفساد والمفسدين بيد من حديد ليكونوا عبرة للاخرين، فهي المنقذ لنا من كل الاخطار المحيطة بنا حتى لا تفلت الامور من ايدينا ونبقى نندب حظنا، فالندم لا ينفع على فراش الموت للنادمين، والزمن لا يرحم المقصرين.

فسلام عليك يا ابن الزهراء البتول يا ابن علي الكرارالكبير، وسلام عليك يا زينب البتول يوم ولدتم ويوم استشهدتم ويوم تعودون الينا لتملئوا الارض عدلا وعزا وكرامة بعد ان مُلئت ظلماً وجوراً.

والله يهدي الى كلِ رشاد
،
 
                               

 Back Home Next