نحن ونوح والسفينة ... ؟
آراء الكاتب
د.عبد الجبار العبيدي
jabbarmansi@yahoo.com
دعنا من التاريخ، فللعراق تاريخ معروف لا حاجة لذكره اليوم بعد ان أسدل التاريخ عليه الرمادية
والنسيان، وحول شعبه الى شيع وكيانات هزيلة متنافرة ومتناحرة لا تستقر على حال. لكن عراقة تاريخه والمخلصين فيه سوف لن يسمحوا بتفكيكه الى كيانات كما يرغب البعض من اصحاب المشاريع
الوهمية لا الوطنية، ظاهرة تاريخية قل حدوثها في العالم الا ما ندر. لكن التاريخ يخبرنا ان دوام الحال من المحال .
يخبرنا القرآن الكريم ان مثل هذه الظاهرة حدثت في
عهد نوح فأغرقهم الله الا نوحا ومن آمن بالحق ونجاهم بسفينته ولا زالت نجاتهم عبرة للعالمين. يقول الحق: ( وقيلَ يا أرضُ أبلَعيِ مآءكِ ويا سماءُ أقلعيِ وِغيضَ الماءُ وقُضِى الأمرُ
وأستوت على الجوديِ وقيلَ بعداً للقومِ الظالمينَ, هود 44).
وقصص القرآن الكريم هي أحسن القصص التي تعطينا خط تطور التاريخ الانساني بالمعرفة والتشريع، أي
التفاعل الأنساني مع الوجود الآلهي والكوني بالعقيدة ،يرافقه التفاعل الانساني مع التشريع بالسلوك.هذه القصص القديمة الرائعة خطها القرآن الكريم بقلمه العظيم رغم انها لم تكن واضحة
بكل تفاصيلها فظلت عرضة للاجتهادات الشخصية حين دخل الفقهاء على الخط وحولوها لصالحهم لا لصالح الانسان، وسماها البعض بأساطير الاولين..
وبعد نوح جاء هود والانبياء الاخرين كل بين رسولٍ ونبي، ولكن هل نفعت دعواتهم الانسان، لقد قالها
نوح لرب العالمين انهم من الظالمين والظلم أسوأ ما يتعرض له الانسان في حياته، واسوأ حاكم هو الظالم من وجهة نظر القرآن. والظالم هو الخائن والذي يأكل اموال الناس بالباطل، وهو المزور
والناكث لعهد الله والقسم، والمجتمع الظالم هو مجتمع المتوحشين يقول الحق على لسان نوح: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون، هود 37).
وحين ركب نوح والصالحين السفينة بقي ابنه خارج السفينة فنادى ربه ان ينجيه من الغرق، فيرد القرآن
على نوح، يقول الحق : (قال يا نوح انه ليس من أهلك انه عَمَلُ غير صالح فلا تسألن ماليس لك فيه علم أني أعظك أن تكون من الجاهلين، هود 46).
قصة كان يجب ان تكون احدى اعمدة المنهج المدرسي في مدارسنا اليوم ليتعلم منها الطالب حكم الله في
الانسان، لكن وعاظ السلاطين وما أكثرهم في زماننا من كتبة المناهج المدرسية من غير المتخصصين، قد اعطونا مفهوما مخالفا لقصة نوح حين قالوا: ان ابنه كان كافرا لذا لم يُنجهِ الله من
الغرق، لكن الحقيقة انه ما كان كافرا وانما كان ظالما ومعتديا على الحقوق والله لا يحب الظالمين المعتدين، والدين الاسلامي مع الحرية وبعيد عن الأكراه في الدين (لكم دينكم ولي دين
،الكافرون 6).
لقد كانت دعوة نوح واضحة بطلب الى الله ان يهدي
القوم الصالحين ويمحق الكافرين الظالمين، يقول الحق:(وقال نوح ربِ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا، أنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا، نوح 26-27). هذه الدعوة
جاءت بعد الغرق لكي يطلب الغفران لمن سلم منهم بعد ان هالته الاهوال والدمار، حتى يبقيهم ليجنبوا الناس عن الباطل ويبعدونهم عنه.
هنا كلمة يلدوا جاءت من التوليد اي من التربية وليست الولادة الفيزيولوجية، لان الانسان يولد على
الفطرة فالبيئة التربوية هي التي تتحكم فيه وبمستقبله فاجرا او كافرا او صالحاً. فاذا كان الانسان في عهد نوح غير قادر على استيعاب قوانين الجدل والتطور، فالقرآن يحثه عليها لأستكمال
حياته ومتطلباته المستقبلية بعد ان نضج عقل الانسان لتقبل هذه المفاهيم وفهم قوانين الطبيعة والجدل والتطور بعد ظهور فكرة التجريد، ولديه أمكانية القبول والتطوير.
وتعلمنا قصة نوح ان اعتماده على المخلصين من العامة الذين صنعوا سفينة النجاة كان صائباً. وهذه
الألتفاتة من نوح تعطينا قاعدة هامة وهو ان الخطاب الفكري العقلاني يجب ان يكون دائما على مستوى رفيع بالنسبة لعصره ومجتمعه، وان الممارسة الحقيقية من قبل السلطة يجب ان تكون مفهومة
وواضحة بالنسبة للعامة ذوي المستوى الأدنى، وهذا اعتراف رباني بالمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وهي واجبة التنفيذ من قبل سلطة الحاكم. لان الحكم ليس هيمنة وسلطة وتفاخر،
وانما مسئولية اخلاقية قبل أي شيء أخر.
امر اخر تعلمنا القصة، ان اكتساب المعارف والعلوم
لا يقتصر على فئة معينة من الناس، بل على كل مستحقيها فلا تمييز في العلم بين الموهوبين فيه، وهذا ما نرفضه اليوم حين تعطى البعثات لاولاد واصدقاء المقربين من السلطة ومن غير
المستحقين لها ويبعد عنها الاخرون، وكما كان متبعا في العهد السابق ان اولاد اصدقاء الرئيس من الاغبياء هم الذين تعطى لهم الافضلية على الاخرين في قبول الجامعات والبعثات، وهذا اخلال
بشرط المواطنة والحقوق ولا زال مستمرا الى اليوم دون تعديل.
ونقطة اخرى ان التوجه نحوالتفرغ العلمي يرفع من كفاءة المواطنين في درجات الرقي والتقدم ليصنعوا لوطنهم دولة العلم والعرفان، لذا يجب ان تكون هناك المعايير الثابتة في الانتقاء
واختيار الجامعات ومعاهد التدريب، ولا تعطى للمترفين وابناء السلطة دون الاخرين كي لا يستبدوا بالناس، يقول الحق: (واذا أردنا ان نهلك قريةً امرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها
القول فدمرناها تدميرا، الاسراء 16). والامر هنا هو عكس الامر بالالزام وانما هو التحذير لهم بعدم خرق الحقوق بين الناس.
ان كلمة المترفين التي جاءت بالقرآ الكريم يقصد منها قصدان: الاول هو طموح كل اهل الأرض في النِعم
والرفاهية وهو طموح انساني مشروع. والقصد الثاني هو ما يعرف اليوم بالأمتيازات اي المتخصصين بها وهم جماعة السلطة ومن بيدهم الامر، لذا فهم يستميتون على بقائها بأيديهم كي تبقى
الامتيازات لهم دون الاخرين، كما هو اليوم في وطننا العربي.
لقد بينَ لنا القرآن الكريم في قصة نوح الدليل على
عدم الاهتمام بالشعارات بقدر اهتمامه بالحقائق الموضوعية الفعلية التي تجري تحتها. فالقرآن يعظ الناس بالعدل فالعدل مطلق في القرآن (واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل) وهي آية
حدية واجبة التطبيق لا يجوز عرفا وقانونا تجاوزها من قبل المواطن والحاكم معاً.
فالقصص القرآني هي سلم التطور في رسالة محمد (ص)، وبعده من المفروض ان يكون الانسان قادرا بنفسه
على تطوير معارفه وتشريعاته ضمن حدود الله التي اعطيت لمحمد(ص)، لذا به ختمت رسالات السماء (اليوم اكملت لكم دينكم .....) ان اعلان انتهاء نظام النبوة والرسالة هو الايذان بان
الانسانية قد بلغت سن الرشد ومرحلة تحمل الاعباء اي ان الانسان اصبح مسئولا. وبه بدأ الانسان الحديث والمعاصر.
لذا فاننا نعتقد ان القصص القرآني ليس من اساطير الأولين كما يقول البعض. وأنما هي أوامر ربانية
جاءت بهيئة قصص على سبيل العضة والأعتبار. وهي ملزمة التنفيذ.