Back Home Next

 الصفوة المختارة في حكم الدولة؟

آراء الكاتب

د.عبد الجبار العبيدي
jabbarmansi@yahoo.com

كلمة صفوة، هي خيار الشيء وخلاصته وما صفا فيه. والصفاء هو مصدر الشيء وصفوة القدر. والصفاء لا غث فيه ولا كدر. يقول القرآن الكريم :"فأذكروا اسم الله عليها صوافي، الحج 36" اي خالصة لله تعالى. ويقصد بالصوافي الاملاك او الارض التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها. والاصطفاء والاختيار هم الانبياء المصطفون، أي المختارون. يقول القرآن الكريم "ان الله أصطفى آدم ونوحا وآل أبراهيم وآل عمران على العالمين, آل عمران 33" "اي اختارهم من بين البشر لقيادة الناس بالصفاء والاخاء والعدل.

وقيل في الصفوة هم جماعة الحل والعقد وهم الفقهاء ووجوه الناس وأهل الرأي والتدبير
وآلوا المكانة فيهم .والرأي عندي ان اهل الحل والعقد هم الممثلون الحقيقيون للامة سواءً كانوا من أهل العلم أو الفقه اوالسياسة أو الأدارة أو المال. ولهم حق اختيار قيادة الدولة في الاسلام لانتخابهم شروط حددتها الشريعة الاسلامية، ويقف على رأسها الاعتدال والثوابت القيمية المعروفة مثل الامانة والحيادية والصدق في القول والعمل، لذا يجب ان يكونوا من الصادقين العدول. لأن العدل في الأسلام تقريري لا يجوز أختراقه ابداً.

وفي الاسلام ان النبي محمد(ص) وأهل بيته هم من الصفوة المختارة من أبناء آدم،
أختارها الله للبشرية لادراكه سبحانه وتعالى في اهميتها الانسانية لنشر العدل في الارض، بعد ان نزهها عن الخطأ وابعد عنها الرجس: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، الاحزاب 33). لكن الفقهاء بعد القرن الثالث الهجري قد ألغوا ثبات النص في استبعاد حق الامة في الاعتراض، بعد ان اصبحت جماعة الحل والعقد تنتخب بشكل عائم وغامض لتحقيق مصلحة الخليفة او السلطان، وبعد ان اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي، لذا بعد انصرام العهد النبوي والراشدي تغير الحال فأصبح اختيارهم يجري عادة بطريقة مبهة وغامضة، من هنا بدأ الانحراف في معنى الصفوة واختيارها وقيادتها للامة. وخاصة بعد ظهور الفرق الاسلامية المتعددة الاجتهادات، والتي اصبح لكل فرقة مؤيديها المختلفين مع الاخرين تجاوزا على وحدة الأمة، وهذا ما نعاني منه الان.

لكن الذي نريد الكتابة فيه هو كيف ان الوعي الحضاري يعتبر تمهيدا لحركة التاريخ في خلق الصفوة المختارة. ولو سارت القيادة الاسلامية على مفهوم الصفوة في الاسلام لما أنتكست الدولة وضعفت وسقطت فيما بعد،
لان التقدم الحضاري للدولة أرتد الى الوراء نتيجة التخلي عن مفاهيم الحق والعدل والمساواة، بعد ان اعتقدوا ان القوة والمال هما الوسيلة لاستمرار الدولة، لا الكفاءة والمقدرة والعدل فيمن يُختارسواء لجماعة الحل والعقد او لحكم الدولة. وهذه هي الاشكالية التي وقعت فيها الامبراطوريات الكبرى في التاريخ كاليونانية والرومانية والمصرية والعراقية والفارسية القديمة على حد سواء،عندما اصبحت نظرية القوة هي المقياس في توارث الحكم ،رغم ان اليونان والرومان كانت لديهم مجالس نيابية منتخبة، تراقب الامبراطور،لكنها كانت شكلية. وما درت تلك القيادات السياسية لتلك الامبراطوريات العظيمة ان الاطار السياسي السليم للحكم يكمن في العدالة الاجتماعية ومشاركة الناس في حكم الدولة، والاسلام قد فطن اليها (لاحظ دستور المدينة، المادة 1)، وهو ضمان كل تقدم وبدونه لا يمكن أضطراد مسيرة الحضارة ابدا، لو ان المسلمين التزموا بما جاءت به شريعتهم لما انتكسوا وضعفوا فكان سقوطهم حتميا مثلما حل بالاخرين من قبلهم. لذا فالصفوة المختارة ووعيها وقيادتها الحكيمة شرط نجاح الدولة واستمرارها.

والصفوة بالمعيار المعنوي لها،
ليس تفضيلا لاحد على اخر، وأنما معناه ان لكل جماعة انسانية واعية متقدمة صفوتها المختارة، التي تقود وتوجه وتبتكر وتبني وتنظر الى الامام وتحسب حساب الحاضر والمستقبل، لذا لابد من ان تكون لها مقدرة القيادة والريادة في حكم الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا الشرط هو الذي اكد عليه الرسول (ص) في دستور المدينة الرائع فقرة (6)(خيار الامة في قيادتها). وطبقه حين امر بتكوين قيادات نشر الدعوة الاسلامية داخل شبه جزيرة العرب (انظر الواقدي في المغازي)، واشار اليه عمر(رض) في رسالة القضاء عندما وضع شرط الكفاءة مقرراً لمن يحكم بين الناس في الولايات (أنظر تنظيمات عمر في رسالة القضاء، دائرة المعارف الاسلامية).، وطبقة الامام علي(ع) عندما رفض طلب عقيل بن ابي طالب في وظيفة متقدمة بحجة عدم اهليته لتلك الوظيفة (انظر السيوطي في تاريخ الخلفاء ص204). لكن الخلل اصاب الدولة بعد عهد الراشدين فتوقفت المسيرة واصبح الاسلام يتعايش في نفوس الناس لا في واقعهم والى اليوم مع الاسف .

وفي ظروف التقدم الحضاري والتنافس الداخلي على المنصب والوظيفة والمهمة، تكون الصفوة مهمتها صعبة وقيادتها معقدة وشائكة،
لان عليها تعتمد الدولة، وبها تتقدم او تتأخر.، لذا وضع الاسلام شروطا لها من اهمها الشعور بالمسئولية الضميرية امام الله والوطن، ومن يتقدم لشغل وظيفة هامة يجب ان يكون كفؤا لها ومن الذين يزكيهم القوم حتى لا يخل بشرط الوظيفة لان العمل في الاسلام هو التكليف وليس التشريف كما يعتقد البعض اليوم عندما أخلوا بحقوق الناس دون رحمة، كي لا تزيغ شخصية المٌختار او تنحرف عن خط الاستقامة وتصبح مصدرا للاذى والضرر والتاخر والفساد. وفي حالة الانحراف، على الامة وهي مخولة ان تطلب من الصفوة او من بعضها ممن لا ترى فيه الامانة والاخلاص، ان تطلب منه او منها:

  1. التنحي او الاستقالة او الازاحة بموجب الحق الشرعي في حالة الفشل في ادارة الجماعة.، لأن لم يحصل في تاريخ البشرية ان قائدا خان وطنه وأنتصر.

  2. ومن ثم اختيار صفوة جديدة لادارة الدولة والامة لديها القدرالكافي من الوعي والادارة والقوة لانجاز ما يوكل اليها من مهام. بغض النظر عن العلاقة او القرابة او الحزب، وهذا هو الضمان الاكيد لنزاهة المؤسسة الحكومية في ادارة الدولة. فوضعت الخطوط الحمراء على التجاوزات والتدخل لصالح من يتهم بالخروج على قوانين الدولة ضمانا للعدالة المطلقة في القضايا العامة، وعلى الحاكم ان لا يتساهل في الخطأ والا اصبح شريكا للمتهم ،وتنص المادة ( 4 ) ارهاب من القانون العراقي على محاسبة كل متهم بجريمة او جنحة وطنية ومن يتستر عليه يشاركه الاتهام. ولذا فأن قانون الدولة يضمن المحاسبة على كل خطأ يرتكب بشريا او ماديا او مال يسرق او ارض تسلب من الدولة او الافراد.

ان الخطأ الذي ارتكبته ادارة الدولة الاسلامية منذ البداية اي منذ عهد الامويين والعباسيين حيث بدأت تقنيين القوانين لصالح السلطة، من هنا فالصفوة المختارة لادارة شئون الدولة بحاجة ماسة الى دراسة وتنظيم، وان لا تترك سلطة الصفوة الممثلة باهل الحل والعقد وغيرهم دون كفاءة او تحديد مدة او مدى سلطان رغم اعتمادهم على الشورى التي تحولت عندهم مع الاسف الى سلطة بيد رئيس الدولة يتصرف بها دون قيد او شرط، فظل كل شيء عائم وغامض وغير مضبوط، لذا بقي الفكر السياسي في الاسلام مشوشا لا وضوح فيه فتداخلته الاهواء من كل جانب حتى افسدته وقضت عليه وحولته الى دكتاتوريا ت فردية او عائلية كما عند الامويين والعباسيين ومن خلفهم من فوضويي السلطة فيما بعد.

لم يكن هذا مقتصرا عليهم فقط لكنه اصبح ارثنا الذي لا ينافس،
ففي الدول العربية بعد حركات الاستقلال بعد الحرب العالمية الاولى، استبعدت كل التشريعات التي فرضتها العقيدة الاسلامية وحل محلها التشريع الغربي ولكن بلا دراسة او تنظيم، فتركت السلطة للاقوى ولمن يؤيد السلطان دون قيد او شرط فتولد لدينا من جديد ارث الامويين والعباسيين، لا بل اشد وانكى، حتى اصبح الخطأ مجسدا فينا لا احد يستطيع رده. ولا زال هذه الخطأ يتجذر في حكم الناس في وطننا العربي رغم كل محاولات التغيير السياسي الذي ابتلى بها الشعب العربي دون نتيجة تذكر، فظلت فوضى السلطة هي الباقية معتمدة على العشائرية والطائفية والعنصرية التي حرمها الاسلام بأيات حدية لا تقبل النقاش، وعندما حوصروا بها أضافوا اليها المحاصصة الوظيفية التي هي أشد خطرا من السابقات. واليوم حين انكشف الخطأ وظهر التناقض بين الحاكمين أصبح كل واحد منهم يهدد الاخر بالتجاوزات القانونية، وما دروا ان التعتيم على هذه التجاوزات كل هذا الزمن الطويل هو بحد ذاته ادانة لهم ولسجلاتهم التاريخية في حكم الدولة يستحقون بها التجريم ان ثبت الدليل.

لم تكن هذه الصفوة التي نتكلم عنها اليوم، هي من ابتكار المسلمين كما يدعي البعض،
وانما كانت ابتكارا يونانيا قديما نسب الى اهل العلم والدراية الذين كانوا بنظر الناس من اصلحهم لقيادة الجماعة في الدولة، وانتقلت للاوربيين والاشتراكيين فيما بعد لحماية الدولة والشعب من الفاسدين والمفسدين، والهدف الاساس من الصفوة هو هدف مشترك بين حالتين صحيتين في قيادة الدولة، اولهما يجب ان لا تتمتع الصفوة المختارة بالميزة المادية والمعنوية على غيرها الا بما يقتضيه ظروف الحال، والثاني لها القدرة والقابلية على ادارة شئون الدولة بكفاءة. وهذه هي التي غفلها العرب وقيادات الدولة الحديثة في العالم الثالث حين عدو الرياسة تشريفا ولا غير .

ان الصفوة الواعية المخلصة تعطي دائما جرعة التقدم والامان لمواطنيها لانها هي في مسئولية الدولة لا تقبل ولا ترضى عن اي انحراف،
لذا اذا ما سارت على طريق الهدى تبقى ثابتة لاجيال طويلة وان تغيرت الاشخاص او الوجوه، لان الكون وحركته التاريخية في حركة متصلة فمن توقف تخلف ومن سار وصل.

ولقد كتب المؤرخ الكبير آرنولد توينبي عن الصحوة وان لم يأتِ بجديد لكنه اكد على اهمية وجودها في المجتمع لادارة ومراقبة حالة المجتمع خوفاً من التدهور.
لان في وحدتها وصلاحها التقدم وفي تصدعها وفسادها التخلف والسقوط.

ان المشكلة التي نعاني منها في الوطن العربي اليوم هي ان الصفوة المختارة التي تمتعت بروح المسئولية والابتكار قد انتهت،
لتحل محلها صفوة التقليديين المستغلين الذين يقتصر همهم على المحاكاة والمحافظة على الموروث والمصلحة الخاصة لا العامة، مما افقدها قوة الحركة والابداع، فكان لا محيص لها الا الضعف والانحلال كما نراه اليوم في صفواتنا المختارة في عراق التغيير، التي لاهم لها الا نفسها ومن حولها دون الناس. وخاصة اذا كانت الصفوة ممن يتشبثون بالاستمتاع بالمراكز اوالمكانة الاجتماعية، متناسين ما وكلَ اليهم من امور جسام ففسد المستوى الخلقي واصبح ضررها اكبر من نفعها بعد ان ابتعدت عن العهد والقسم، فلا بد من تغيرها واحيانا هي تموت قبل ان تزاح او تقتل، ولنا شواهد التاريخ في يزيد الاول الاموي والمستعصم العباسي الذي سقطت الدولة وهو لا يدري بنفسه انه كان هو خليفة على المسلمين ام هو خليفة على نفسه.

ان اصحاب القدرة على القيادة السياسية والاخلاص للدولة الذين لا تهمهم مصالحهم الخاصة قلة في التاريخ البشري، ويقف الامام علي(ع) والخليفة عمر بن الخطاب(رض) في المقدمة.، فمن يقرأ نهج البلاغة ورسالة القضاء يدرك ان هذان الرجلان كانا يمثلان الصفوة المختارة التي كانا بمقدورهما ان يقودا دولة ويبنيان مجتمع ويسودا العدل والقانون في دولة الاسلام لو وجدا في مجتمع يفهم قصدهما، ففشلهما وقتلهما كان سببا مجتمعيا لاشخصياً.

ان اهم ماادركه العلماء والمصلحون، ان الناس اذا كانوا سواسية امام القانون فهم ليسوا سواسية في المواهب والقدرات الشخصية والبدنية،
لذا فالمساواة بين الحقوق والواجبات بموجب هذه النظرية هي خرافة لان الحق هو ان كل انسان لابد ان ينال من الحقوق بقدر ما يقوم به من واجبات، وتلك نظرية لم تفطن اليها الامبراطوريات الكبرى من قبل ولو تحققت لما بقي عاطلا ولا متكاسلا ولا متباغضا او متحاسدا، أنه علاج اجتماعي لا يخترق ابد.والمسلمون هم الذين بدأوا فيه.

من هنا فالامتيازات، اصبحت حقا شرعيا لروؤساء الدولة وكبار موظفي الدولة لمهامهم الجسام التي يقدمونها بشرف وتضحية لا اهمال ومصلحية خاصة،
لان واجباتهم تختلف عن الاخرين مسئولية وتنفيذا.دون ان يضعوا في الحساب فترة بقائهم في المنصب، لان مجرد الاخلال بماهو مفروض عليهم يجعلهم يسرقون وينهبون ويخلون بشرط الوظيفة تأمينا لهم ولمستقبلهم، فكيف اذا منحوا كل هذه الامتيازات وهم يسرقون؟  هذا الخلل وقعت فيه الدولة العثمانية حين كانت تعين الولاة بفترة زمنية من 3-4 سنوات دون شروط .

ان الذي حصل عندنا في البلاد العربية، هوحين احس الوزير اوالمدير ان منصبه تشريفا لا تكليفا اخل بنظرية الصفوة ففشل،
وهؤلاء هم الذين نقول عنهم ليسوا بصفوة بل صفوة زائفة او ظاهرية او وراثية، لذا فان امتيازاتها خسارة على الوطن ومظهرا من مظاهر الفساد فيه. وبين الفساد والاعتدال يقف البعض في وسط القول حين يقولون ان الصفوة الفاسدة مهما كانت، فأن وجودها احسن من عدمها، لان عدم وجودها تعني الفوضى، وقد اخذ بهذا الرأي كل من الماوردي والغزالي وابن تيمية وبعض الفقهاء الاخرين بعد القرن الرابع الهجري، ولازالت وجهة نظرهم سائدة عند الكثيرين الى الان، حين قالوا ليس اخطر على الدولة والجماعة من عدم وجود الصفوة، لان البديل هو الفوضى، وهنا الخطر القاتل والمميت . والفوضى لا تعود بالانسان الى البدائية فحسب ،بل ترد الجماعات الى العدم. والفوضى هي نهاية كل حضارة بادت وتحجرت وخاصة في جوانبها السياسية، وفقهاؤنا ما كانوا يعلمون بدورة التاريخ المنفتحة وتغير الظروف والأزمان، لذا بقي فكرهم متحجرا في رؤوس السلفيين، وهؤلاء بوجب نظرية الصفوة او اهل الحل والعقد الذين وضعت الشريعة الاسلامية شروط اختيارهم للاستشارة او الادارة او الحكم وتخلوا عنها، هم الذين دقوا اسفين الضعف والتدهور في سلطة الدولة فيما بعد واستمر الى اليوم، بعد ان تلاقفته المصالح الشخصية وجعلته قانونا متوارثا في حكم الدولة.
 

 Back Home Next