ثقافة العفو
آراء الكاتب
نزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
عندهم، اقصد في بلاد الغرب، اذا نبهت احدهم الى خطا ارتكبه فانه
يعتذر لك ثم يشكرك، اما عندنا، اقصد في بلاد العرب والمسلمين، فانك اذا نبهت احدا الى خطا ارتكبه فانه يشتمك ويعتدي عليك وربما يقتلك، بعد ان يرعد ويزبد ويزمجر ويصرخ.
هذا الحال ينطبق على كل مستويات المجتمع، بدءا من الرئيس
والمرؤوس وانتهاءا بالشارع مرورا بالمدرسة والجامعة والعائلة وغير ذلك.
فلم نسمع مثلا ان رئيسا اعتذر لشعبه، وان ابا اعتذر لاولاده وان
زوجا اعتذر لزوجته وان معلما اعتذر لطالبه وان صاحب متجر اعتذر لزبون وان شرطيا اعتذر لسائق وان رجل امن اعتذر لمعتقل، وهكذا.
لماذا؟.
اعتقد ان الامر يعود الى ثلاثة اسباب:
السبب الاول؛ هو اننا نعتقد بان الاعتذار
منقصة، وهو سبب للتحريض ضدنا، فاذا نبهك احد الى خطا ارتكبته فكانما طعنك في عنفوانك، فالرئيس اذا اعتذر لشعبه فان ذلك ينقص من قدره وبالتالي قد يحرض الشارع ضده لاسقاطه، والموظف
اذا اعتذر لمواطن فان ذلك بمثابة اهانة للحكومة قد ينتهي الى فقدانها للهيبة، والاستاذ اذا اعتذر لطالب فهي الاهانة للعلم بعينها لا ينبغي ارتكابها.
اننا نتصور ان الاعتراف بالخطا او التقصير يقلل من شان
الانسان، ولذلك يثور احدنا اذا اكتشف احد خطا في عملنا، ونسعى بكل جهدنا وبكل ما اوتينا من قدرة على التبرير والاحتيال والكذب والتزوير وربما نعطي الرشاوى لهذا او ذاك من اجل ان لا
نعترف بخطا او نتستر عليه على الاقل اذا امكنتنا الحيلة.
السبب الثاني؛ هو اننا لا ننشد
التطور، وكلنا نعرف فان عدم الاعتراف بالخطا وعملية التطور على طرفي نقيض لا يجتمعان، والعكس هو الصحيح، فالاعتراف بالخطا هو المنفذ الحقيقي للولوج الى عالم التطور.
السبب الثالث؛ هو اننا لا نحترم الاخر، وقبل
ذلك لا نحترم انفسنا ولذلك نتهرب من الاعتراف بالخطا حتى لا نعتذر لاحد من اجل ان لا يسبب لنا ذلك اية منقصة.
ان كل ذلك خطا في خطا في خطا.
ففي الغرب، وكما اسلفت، عندما تنبه احدا الى خطا فانه يعتذر لك
ويشكرك، لانه يعتبر التنبيه خدمة كبيرة جدا تسديها له.
فاما الاعتذار لك، فلانه يحترمك ويقدر نباهتك، من جانب، ولانه
اساء الى حقوقك بارتكابه الخطا، ولذلك يعتذر لك على التقصير الذي بدر منه تجاه حقوقك عنده.
واما تقديمه الشكر لك فلانه يعتبر ان تنبيهك اياه على الخطا الذي
ارتكبه تجاهك دليل على حرصك على انجاح عمله، فلو لم تنبهه الى الخطا لواصل عمله بنفس الطريقة والتي قد تجره الى ارتكاب خطا اكبر.
انه يعتقد بان تنبيهك له دليل حرصك على مصلحته الشخصية، من جانب،
من اجل ان لا يرتكب الخطا مرة اخرى ما قد يسبب له الفشل فالطرد من موقع العمل، كما انه دليل على حرصك على المصلحة العامة، والتي يمثلها مجموع اعمال الافراد في اي مجتمع من المجتمعات،
من جانب آخر.
فضلا عن ذلك فانه يعتبر تنبيهك اياه على الخطا ليصححه ويتجنب
ارتكاب امثاله منفذ لتطوير العمل، فالخطا يجر الى الخطا كما يقولون، فاذا لم تنبهه الى الخطا فقد ينتهي به الامر الى اخطاء متكررة وبذلك فسوف لا يقدر على تطوير عمله الذي سيبنى على
خطا او اخطار متكررة.
لقد سئل مرة رجل ثمانيني عن سر نجاح حياته الزوجية مع زوجته
الثمانينية هي الاخرى، فعزا سر هذا النجاح الى كلمتين فقط، بسيطتين ولكنهما ثقيلتين في نفس الوقت، الا وهما: شكرا وعفوا، فعندما تنجز له زوجته عملا ما يبادرها بالشكر، وعندما يرتكب
بحقها خطا ما يبادرها بالعفو، او عندما ترتكب بحقه خطا ما يحاول ان يعفو عنها من دون تعظيم الامور وتضخيمها والذي ينتهي بالزوجين الى مشاكل عويصة، ومن الواضح جدا فان حياة زوجية تقوم
على اساس هتين العبارتين لا يمكن ان تنتهي بالفشل ابدا، لانهما كلمة سر السعادة.
ذات الامر ينطبق على كل مناحي الحياة، فالمسؤول الذي يعتذر للناس
عندما يرتكب خطا ما بحقهم، وان الشعب الذي يشكر المسؤول عندما ينجز له عملا حسنا ما، فان العلاقة بينهما ستكون مبنية على الثقة المتبادلة وعلى الحب والاحترام والاعتراف بالاخر وبما
ينجز وينجح في تحقيقه، والعكس هو الصحيح، فالمسؤول الذي يرد على تنبيه الناس له على خطا ارتكبه بالرصاص الحي والدبابات والطائرات والمقابر الجماعية والسلاح الكيمياوي والانفال، فان
العلاقة بين الطرفين سوف تكون علاقة غير سليمة قائمة على اساس التربص والعنف وعدم الثقة والتشنج المستمر الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا، كأن يخرج مثل هذا المسؤول من بالوعة كما حصل
للطاغية الذليل صدام حسين، او ان يرمى في مشفى عسكري بانتظار محاكمته بعد حكم شمولي دام 30 عاما كما هو اليوم حال الطاغية الذليل الاخر فرعون مصر، او كما هو حال من ينتظر من حكام
النظام السياسي العربي الفاسد الذين بداوا يتساقطون كاوراق الخريف الواحد تلو الاخر، بانتظار محاكمتهم على ما اقترفوه من جرائم مروعة بحق شعوبهم الصابرة.
والعفو على نوعين، عفو من ذنب وعفو عن ذنب،
ولكل شروطه ومقوماته.
اما الاول، فلا يمارسه المرء
الا اذا:
الف؛ كان يؤمن بان ذلك لا يقلل من
شانه، بل على العكس فان الاصرار على الذنب هو الذي يقود الانسان الى السقوط امام الاخرين، خاصة اذا كان الذنب بحق المجتمع، كما هو حال النظام السياسي، فذنب الحاكم بحق الشعب لا
يمكن ان ينساه الناس، ولكن العفو منه اي الاعتذار منه قد يقلل من غضب الشعب عليه، شريطة ان يكون في اوله، اما اذا استمر الخطا عقودا طويلة من الزمن ليتحول الى جريمة بحق الشعب،
فان الف اعتذار والف عفو والف ندم لا ينفع.
باء: كان ينوي التصحيح
والاصلاح وعدم الاسترسال معه، وفي الاية الكريمة {فمن عفا واصلح فاجره على الله انه لا يحب الظالمين}.
ان الخطا اذا تحول الى منهجية والى عملية مبرمجة فان
الاعتذار منه لا ينفع ابدا، لان شرط الاعتذار هو ان يصمم المرء قبله على الاقلاع عنه وعدم الاصرار عليه، اما وقد تحول الخطا الى منهج فان معنى ذلك ان صاحبه غير مستعد لتركه من
اجل ممارسة عملية الاصلاح المطلوبة، وفي مثل هذه الحالات يكون الاخر قد فقد ثقته ولذلك لم يعد بامكانه ان يصدق ما يقدمه المخطئ من اعتذارات متكررة، وهذا هو اليوم حال الشعوب
العربية التي فقدت ثقتها بالنظام السياسي العربي الفاسد الذي ظل يمارس السلطة لحد الان اكثر من نصف قرن من الزمن، وفي كل مرة يحاول فيها الحاكم تقديم بعض التنازلات لثورة الشعب
في محاولة منه للانحناء امام العاصفة التي تهب رياحها بوجهه بين الفينة والاخرى، لدرجة ان بعضهم كان يذرف دموع التماسيح من على الشاشة الصغيرة لاستدرار عواطف الناس، ولتاكيد
تصميمه على التغيير والاصلاح، ولكن، ما ان تمر الازمة اذا بمنهجية الذنب والخطا والجريمة تعود مرة اخرى لتحكم بالحديد والنار، ولذلك نرى اليوم ان الشعوب في البلاد العربية لا
تقبل ان تتنازل للحكم وللزعيم الحاكم باية صورة من الصور، فترفض، مثلا، ان تدع الحاكم يكمل المدة (الدستورية) لولايته، بل انها تصر على ان تخلعه من السلطة لتسميه ابد الدهر
بالرئيس المخلوع، وكل ذلك بعد ان فقدت ثقتها بالنظام السياسي العربي الفاسد الذي ثبت من خلال عشرات التجارب انه لا يتغير طواعية وانه غير قابل للاصلاح لان الخطا عنده تحول الى
منهج والى عملية مبرمجة، تعتمد القوة المفرطة والاجهزة البوليسية والامنية والتمييز والتضليل وهدر المال العام وفي احيان كثيرة تعتمد الفتوى الدينية التكفيرية والطائفية التي
يصدرها وعاظ السلاطين وفقهاء التكفير، كما هو الحال بالنسبة الى النظام القبلي المتخلف الحاكم في الجزيرة العربية الذي يعتمد على فقهاء يصدرون فتاواهم تحت الطلب.
اما العفو عن ذنب،
فانما يمارسه المرء اذا:
اولا؛ كان يشعر بالقوة وعلو الهمة
فالضعيف لا يسامح احدا والهزيل لا يصفح عن احد مهما كان ذنبه تافها، وفي هذا المعنى قال امير المؤمنين عليه السلام {الحلم والاناة توأمان ينتجهما علو الهمة}.
والقوة لا تعني ان يمتلك المرء العظلات او الدبابات او
السلاح الفتاك، ابدا، انما القوة تعني سمو الاخلاق اولا والايمان بالحق ثانيا، فالعالم قوي اذا كان يعتقد بعلمه ويؤمن به، والطالب قوي اذا كان يحب العلم والتعلم والمعلم واستاذ
الجامعة قوي اذا كان متفانيا بالجهد التعليمي الذي يبذله من اجل تعليم الجيل الجديد، والنظام قوي اذا كان يعتقد بحق المواطن في الحياة الحرة الكريمة، اما النظام الديكتاتوري
والاستبدادي فلا يمكن ان يحس بالقوة ابدا مهما امتلك من اسباب القوة العسكرية والامنية، فلقد ظل الطاغية الذليل يتبجح بمثل هذه القوة على مدى نيف وثلاثين عاما من سلطته الدموية
في العراق الا انه سرعان ما انهار امام اول تحدي للقوة، وهكذا هم اليوم حكام النظام السياسي العربي الفاسد، فعلى الرغم مما يمتلكون من قوة عسكرية باهرة ومن اجهزة امنية وقمعية
شديدة البطش الا انهم بدأوا ينهارون الواح تلو الاخر، وهم لا يشعرون بالامان ابدا، بل {اذا رايتهم تعجبك اجسامهم وان يقولوا تسمع لقولهم كانهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم
العدو فاحذرهم قاتلهم الله انى يؤفكون} واذا تمكن احدهم من الافلات من بطش الثورة الشعبية من خلال الاستنجاد بالقوى الخارجية، كما هو الحال مع نظام آل خليفة الفاسد الحاكم في
البحرين، فانه سينهار امام ثورة الشعب ان عاجلا ام آجلا، لانه لا يشعر بالامن مع كل ما يمتلك من قوة عسكرية وامنية كونه لا يشعر بانه يمثل شعب البحرين بشكل حقيقي وواقعي فهو
يتعامل معه بتمييز طائفي قل نظيره في العالم، باستثناء نظام آل سعود الفاسد الذي يحكم في الجزيرة العربية بنفس الاسلوب وبنفس الطريقة والعقلية والادوات.
ثانيا: اذا كان يمتلك نظرة مستقبلية لا تدع
عواطفه واحاسيسه تسيطر على عقله ومنطقه.
لقد عفا رسول الله (ص) عن اهل مكة من المشركين الذين ظلوا
يقاتلونه بكل السبل والوسائل خاصة آل ابي سفيان وآل مروان ومن لف لفهم من القتلة والمجرمين، واطلق كلمته المشهورة بحقهم {اذهبوا فانتم الطلقاء} ليس خوفا منهم وهو المنتصر
الفاتح، وليس خشية من بطشهم وهم الذين استسلموا له كرها وتحت حد السيف، وانما لان رسول الله (ص) كان يمتلك رؤية مستقبلية بعيدة المدى كانت بحاجة الى موقف عقلاني يهدئ الحال
ويتجاوز عن الماضي ويقضي على الاحقاد والضغائن، فكان عفو الرسول الكريم (ص) عنهم بمثابة نزع فتيل روح الانتقام التي تجر الى الدم بلا هوادة.
ان انعدام روح العفو والصفح والتجاوز عند الانسان ــ
الفرد، والانسان ــ المجتمع يغذي روح الانتقام والتي تغذي الحقد والكراهية في النفوس، ولذلك فلقد اكدت كل الديانات السماوية والقيم الاخلاقية والمناقبيات الانسانية على العفو
كخيار لا يجوز الاستغناء والتنازل عنه، لان العكس من العفو هو الانتقام، والعكس من المودة والحب والتعاون والتسامح والتجاوز والعفو هو الكراهية والبغضاء والشحناء التي ان شاعت
في المجتمع فسياكل بعضه بعضا، اما في حروب اهلية او في عداوات مختلفة العناوين واما في حالة من التفتت والتمزق والتشرذم وانعدام الثقة، التي تعمي بصيرة المجتمع، فلا يقدر على
تحقيق نجاح يذكر.
ان المجتمع الذي تقوم علاقاته على اساس العفو والصفح
والحلم المتبادل بين ابنائه، وبين الحاكم والمحكوم، لهو مجتمع ناجح قادر على استيعاب الخطا وهضم التقصير من اجل الصالح العام، اما المجتمع الذي تقوم علاقاته على اساس الانتقام
والعداوة والكراهية وعدم العفو والصفح، خاصة بين الحاكم والمحكوم، فانما هو مجتمع متوحش لا يعرف معنى للخلاف الا الذي ينتهي الى عراك ومخاصمة، ولا يعرف معنى للراي والراي الاخر،
كما انه لا يعرف معنى للمعارضة والرقابة وحرية الراي، لان الحاكم لا يتحمل اية كلمة تعارض سياساته فهو لا يحب ان يسمع الا كلمة القبول من الشعب، كما ان الناس لا يقبلون من بعضهم
البعض الاخر الا ما ينسجم مع ما يؤمنون ويعتقدون به.
في النموذج الاول تجري عملية الاصلاح
والتطوير بكل سلاسة وبساطة، لان الحاكم والمحكوم مستعدان لقبول الاخر والتجاوز عن الخطا والاعتذار عن التقصير، ففي مثل هذا المجتمع يعتذر الحاكم للرعية اذا اخطا او قصر او فشل فلا
يحاول ان يماطل بالاسباب او يراوغ او يتحجج باعذار واهية لا اساس لها من الصحة، كما انه لا يحاول ان يبحث عن كبش فداء لرمي المشكلة في رقبته ليخرج منها سالما، ابدا، انه يتحمل
المسؤولية كاملة، وبكل شجاعة واقتدار وايمان، كما انه لا يحاول استخدام العنف ضد الرعية اذا ما اشرت على خطا او فشل في اية مؤسسة من مؤسسات الدولة، اما الرعية فانها تصفح عن الحاكم
اذا ما قدم اعتذارا لها على خطا او تقصير ارتكبه بحقها لانها تثق بوعوده وتصدق اعتذاره، ولذلك نسمع الاعتذار على لسان اعلى مسؤول بمثل هذه المجتمعات، وهي المجتمعات التي تحكمها انظمة
ديمقراطية يتسنم المسؤول موقعه في السلطة عن طريق صناديق الاقتراع في انتخابات حرة ونزيهة، كما اننا نسمع ونشاهد في مثل هذه المجتمعات تقديم الكثير من المسؤولين لاستقالاتهم من
مناصبهم بسبب خطا او فضيحة بسيطة او فشل في مهمة، وكل ذلك يحصل ببساطة وسلاسة ومن دون تعقيد.
اما في النموذج الثاني فان عمليات التغيير
والاصلاح لا تجري الا بانهار الدماء وبجيش من الايتام والارامل وبتدمير البلد وخيراته، كما هو الحاصل اليوم في البلاد العربية، لماذا؟ لان الحاكم لا يعتذر عن خطا ارتكبه، بل عن جريمة
ارتكبها، فهو يشعر وكان الاعتذار يرسم نهاية حكمه، واذا صادف ان اعتذر الحاكم لشعبه ووعدهم بالاصلاح والتغيير فان الرعية لا تثق به كثيرا لان التجربة والخبرة علمتها بان اعتذار الحاكم
انحناءة امام العاصفة وان وعود الاصلاح محاولة منه لامتصاص النقمة والغضب الذي يجتاح الشارع ضده، بل ان الشعب يرفض ان يمنح الحاكم اية فترة اضافية لانه يعرف بان مثل هذه الفترة من
الاسترخاء والسكون سيوظفها الحاكم للانتقام من الشعب وليس لاصلاح الامور كما هو الحال مثلا في البحرين التي تشهد اليوم حالات انتقام سلطوية ضد الشعب البحريني تارة على الهوية واخرى
على الانتماء المذهبي او المناطقي، بل ان السلطة في البحرين استعانت باسوأ قوات عسكرية طائفية حاقدة ضد شعب البحرين الا وهي قوات درع الجزيرة التي غسلت السلطات الحاكمة في الجزيرة
العربية ادمغتها (طائفيا) وهي التي تتشكل من عناصر تنتمي باغلبيتها الى (الحزب الوهابي) الذي يعتقد بان قتل من يخالفه الراي والمعتقد يقوده الى الجنة ليحضر مأدبة غداء او عشاء مع رسول
الله (ص).
اننا بحاجة الى اشاعة روح العفو والتسامح والصفح في مجتمعاتنا،
خاصة في العراق الذي تراكمت فيه روح البغضاء والمشاحنة والحقد والكراهية والشك والتربص التي زرعها النظام الديكتاتوري البائد بسياساته العنصرية والطائفية والحزبية والامنية البغيضة،
ليتحمل بعضنا البعض الاخر.
ليس بيننا من هو معصوم عن الخطا، ولكن ليس كل خطا يعالج بالقوة
والعنف والعراك والخصام والقطيعة، فلقد قال امير المؤمنين عليه السلام عن تاثير العفو في عملية التاديب وهو يوصي ولده الامام الحسن السبط المجتبى عليه السلام {اذا استحق احد منك ذنبا
فان العفو مع العدل اشد من الضرب لمن كان له عقل} شريطة ان يتبعه عتاب او من او اذى او تعيير، فلقد سئل الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن تفسير الاية {فاصفح الصفح الجميل} قال
{العفو من غير عتاب}.
وذات مرة شكى الى رسول الله (ص) رجل من خدمه، فقال له: اعف عنهم
تستصلح به قلوبهم، فقال يا رسول الله: انهم يتفاوتون في سوء الادب، فقال: اعف عنهم، ففعل}.
يجب ان نتعلم كيف يعفو بعضنا عن البعض الاخر، في البيت والمدرسة
والجامعة ومحل العمل والسوق والشارع وبين الحاكم والمحكوم، طبعا من دون ان يعني ذلك ان نتجاوز على القانون او على الحق العام او على الالتزامات الاجتماعية والاخلاقية والعادات
والتقاليد الصحيحة ابدا، فالعفو ليس فوضى وان التسامح والصفح عن الخطا لا يعني التجاوز على المحرمات مثلا او الثوابت ابدا.
لقد اكد الاسلام على ثقافة العفو في الكثير من النصوص القرآنية
والسيرة النبوية وكذلك في نهج الائمة المعصومين عليهم السلام، ففي الاية {ان تبدو خيرا او تخفوه او تعفو عن سوء فان الله كان عفوا قديرا} وعن رسول الله (ص) {الا اخبركم بخير خلائق
الدنيا والاخرة؟ العفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، والاحسان الى من اساء اليك، واعطاء من حرمك} انه الشعور بقوة الايمان وسمو الاخلاق الذي يجعل يد صاحبها هي الاعلى دائما، فهو الذي يبادر
دائما من دون ان ينتظر الثمن، ربما.
وعنه (ص) {اذا اوقف العباد نادى مناد: ليقم من اجره على الله،
وليدخل الجنة، قيل: من ذا الذي اجره على الله؟ قال: العافون عن الناس} اما الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فيقول بهذا المعنى {ثلاث من مكارم الدنيا والاخرة: تعفو عمن ظلمك،
وتصل من قطعك، وتحلم اذا جهل عليك}.
ان اشاعة ثقافة العفو تساعد على الحوار وقبول الاخر، وغض الطرف
عن الخطا اذا لم يمس القانون العام، كما انها تعني القبول بالاصلاح والتطور والاستعداد لتصحيح الخطا من دون ان تاخذنا العزة بالاثم، الخطا.
انها تساعدنا على اسقاط الضغائن بيننا، كما قال رسول الله (ص)
{تعافوا تسقط الضغائن بينكم} ويخطئ من يتصور بان االعفو مذلة ابدا، بل على العكس فالعفو {لا يزيد العبد الا عزا، فاعفوا يعزكم الله} على حد قول الرسول الكريم (ص) ولنتذكر دائما بان
{الندامة على العفو افضل وايسر من الندامة على العقوبة} على حد قوله (ص).
كما ان ثقافة العفو تساعدنا على تجاوز الغضب عند الخلاف للوصول
الى نتائج مرضية، وبها نستر عيوبنا التي لا يسلم منها احد، والى هذا يشير قول امير المؤمنين عليه السلام {الحلم غطاء ساتر، والعقل حسام قاطع، فاستر خلل خلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك}.
لماذا تنتهي اغلب خلافاتنا العائلية مثلا الى الطلاق؟ وخلافاتنا
السياسية الى القطيعة ان لم يكن اكثر من هذا؟ وخلافاتنا الحزبية الى الانشقاق واحيانا الى التقاتل والتصفيات الجسدية والتسقيط السياسي والحزبي؟ ومعارضاتنا للسلطة الى القتل وسفك
الدماء؟ وحواراتنا الثقافية الى الخصام والعراك واحيانا باستخدام الايدي والارجل ان لم يكن بالسلاح؟.
لماذا تفشل اغلب صداقاتنا وشراكاتنا؟.
لماذا لم نتعلم لحد الان فن الخلاف وفن فض النزاعات؟.
الجواب؛ لاننا لا نعرف كيف نعفو فلا نتحلم عند الخلاف والغضب،
الحلم الذي يصفه امير المؤمنين عليه السلام بقوله {الحلم عشيرة} ولم نتعلم فن الصفح، ولا زلنا لم نتعلم بعد ثقافة تقبل التاشير على الخطا من قبل الاخر لاننا نعتبر ذلك طعنا بشرفنا او
بعقلنا او برجولتنا ولذلك لا نسمح لاحد ان ينبهنا الى خطا ارتكبناه ولا نقبل من احد ان يخبرنا بفشل.
واذا اردنا ان نتعلم ثقافة العفو فان علينا ان نؤمن بان الخطا هو
تجاوز على حق من حقوق الاخر، فاذا تعاملنا مع الخطا على هذا الاساس، فاننا سنشكر من ينبهنا الى خطا ثم نعتذر عنه، كما هو الحال في بلاد الغرب مثلا، لان التنبيه في هذه الحالة يساعدنا
على اعادة الحق الى صاحبه، والذي تجاوزنا عليه بعمد او من دون عمد.
ومتى ما تعامل المسؤول في الدولة مع الخطا على هذا الاساس فانه
سيتوسل الى الناس لينبهوه على الخطا ليعيد الحق الى نصابه والى اصحابه، اما المسؤول الذي يتعامل مع الموقع وكانه ضيعة ورثها عن ابيه او امه، كما هو الحال مع الانظمة القبلية الحاكمة
في البحرين مثلا او الجزيرة العربية او المغرب او الاردن، فانه بالتاكيد لا يقبل ان ينبهه احد الى خطا واذا حصل ان حدث مثل هذا فانه لا يعتذر على خطا لانه يتعامل مع الناس كعبيد ورثهم
من ابيه او امه، فان شاء تكرم عليهم وان شاء منع، والمنع هنا لا يعتبره خطا ليعتذر منه، ولا يعتبره حق من حقوق الناس ليعيده الى اصحابه، وتلك هي مشكلة النظام السياسي العربي الفاسد
الذي استولى على البلاد والعباد اما بالوراثة او بالانقلابات العسكرية (السرقات المسلحة).
اخيرا، فان علينا ان نتذكر بان الدنيا دول، وهي يوم لنا ويوم
علينا، فاذا عفونا فسيعفو عنا الاخرون، وليس بيننا من لم يمر بمثل هذه الظروف، ولقد كتب امير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر لما ولاه مصر يقول {يفرط منهم، الناس،
الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك الله من عفوه وصفحه}.
فالحذر الحذر من التشهير، وعلينا ان نتسلح بثقافة العفو والصفح والتسامح، فهي مفتاح
بناء المجتمع السليم الذي يبني علاقاته على اسس متينة لا تهزها العواصف ولا تهدمها الاعاصير، وصدق امير المؤمنين عليه السلام الذي كتب في عهده الانف الذكر موصيا {وليكن ابعد رعيتك
منك، واشنأهم عندك، اطلبهم لمعائب الناس، فان في الناس عيوبا، الوالي احق بسترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فانما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما
استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من عورتك}.