رحمة الاختلاف
آراء الكاتب
نزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
هل يستطيع احد ان يلغي
الاختلاف في المجتمع؟ بالتاكيد كلا، والسبب واضح وبسيط في آن واحد، الا وهو؛ ان الاختلاف سنة الحياة، فهو الفطرة التي فطر الله تعالى الخلق، وليس البشر، عليها.
ولقد سمى القران الكريم الاختلاف آية
من آيات الله تعالى كما في قوله عز وجل {ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لايات للعالمين}.
وفي الاية {ولو شاء ربك لجعل الناس
امة واحدة ولا يزالون مختلفين} تاكيد واضح لا يقبل الجدال على ان الاختلاف هو الاصل في سنن الحياة، ولذلك فان من المستحيل القضاء عليه وانهائه في اي مجتمع.
ولقد تحدث القرآن الكريم في العديد من
آياته عن الاختلاف في كل شئ، منها قوله تعالى:
{وهو الذي انشا جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلف اكله والزيتون والرمان متشابه وغير متشابه}
{وما ذرا لكم في الارض مختلفا الوانه ان في ذلك لاية لقوم يذكرون}
{ثم
كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه}
{الم تر ان الله انزل من السماء ماء فاخرجنا به ثمرات مختلفا الوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف الوانها وغرابيب سود}
{ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه}
{الم تر ان الله انزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا الوانه}
{كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه}
{وما كان الناس الا امة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون}.
من ذلك يتضح لنا جليا ان الاختلاف هو
الاصل في الخلقة وكذلك في العلاقة البشرية، اما الاتفاق فاستثناء، ولذلك فهو يعيش معنا في كل مكان، في الاسرة وفي العمل وفي السياسة وفي الثقافة والفكر وفي العلم وفي المدرسة وفي
الشارع وفي الفريق الرياضي، وفي الايمان وفي الدين وفي المذهب وفي القومية وفي الجنس وفي اللون، وفي كل شئ ومكان.
والمشكلة لا تكمن في وجود الاختلاف،
اذ ليس من المعقول ان يفطرنا ربنا على شئ هو مشكلة ابدية لنا، ابدا، انما المشكلة في طريقة التعامل مع الاختلاف، فبينما يسلم به البعض فيتعايش معه ويروضه ويجعله آلة طوع بنانه لخدمة
الاهداف النبيلة والاسمى، يكابر البعض الاخر فلا يعترف به فيحاول ان يلغي الاخر لانه يختلف معه في شئ ما، كالقومية او الدين او المذهب او الفكر او اي شئ آخر.
ان الفن هنا ليس في القضاء على
الاختلافات، بل توجيهها نحو هدف مشترك واحد هو التقدم.
ولو تدبرنا في الايات اعلاه لاتضح لنا
جليا هذا المعنى، فالله تعالى لم يبعث الكتاب ليلغي الاختلاف وانما لتنظيمه وتوجيهه وقيادته بصورة صحيحة وسليمة.
وعندما يكون الاختلاف سنة وفطرة الله
التي فطر الخلق عليها، فهذا يعني ان في الامر غاية مقدسة وهدف اسمى اراد الله تعالى لعباده ان يصلوا اليه من خلال الاختلاف تحديدا، الا وهو، برايي، التكامل والسمو، من خلال بلاء
الاختلاف، ان صح هذا التعبير، والذي اشارت اليه الاية الكريمة بقولها {ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم} فالمجموعة البشرية التي تتطابق في كل شئ، جدلا، لا تسير
نحو التكامل ولا يمكنها ان تحقق السمو ابدا، لانها، والحال هذه، لا تعرف ماذا ينقصها لتسعى من اجل ايجاده، ولا تعرف اين الخلل والخطا والنقص لتسعى الى اكماله واصلاحه، ولذلك قيل في
الحكمة (تعرف الاشياء باضدادها) فالليل لا يعرفه الانسان الا بالنهار، والطعم الحلو لا يعرفه الا بالطعم المر، والجمال الا بالقبح والعلم الا بالجهل والطول الا بالقصر والكبر الا
بالصغر والحق الا بالباطل والبطولة والشجاعة الا بالجبن والثقة الا بالتردد والايمان الا بالكفر والنجاح الا بالفشل والقوة الا بالضعف والعدل الا بالظلم والربح الا بالخسارة، وهكذا،
ولو انتبهنا الى هذه المتناقضات جيدا لاكتشفنا ان جوهرها هو (الاختلاف) في الاشياء والمعاني والجوهر، ولولاه لانتفى مفهوم التكامل والسمو والبحث عن الافضل والاحسن.
من هنا اكرر جازما بان المشكلة ليست
في الاختلاف ابدا، وانما في طريقة تعامل الناس معه وقبل ذلك فهمه واستيعاب فلسفته، فليس في هذا العالم مجتمع ليس فيه اختلاف، الا ان الفرق يكمن في ان المجتمع الناجح هو الذي يعرف كيف
يتعامل مع الاختلاف من اجل توجيهه لتحقيق الصالح العام، اما المجتمع الفاشل فهو الذي لا يمتلك ثقافة الاختلاف فهو لا يعرف كيف يتعامل معه بطريقة تخدم مصالحه وتحقق طموحاته، فالمجتمع
الناجح يوظف الاختلاف من اجل الرقي والبناء والتقدم وتحقيق الاهداف السامية، لانه يعرف كيف يتعامل معه، اما المجتمع الفاشل فهو الذي يحول الاختلاف الى آلة حادة لتمزيق جسده وتقطيع
اوصاله وتدمير نسيجه الاجتماعي، وتحطيم كل امل في التغيير والبناء والتقدم والازدهار.
خذ مثلا على ذلك الولايات المتحدة
الاميركية، ففيها من الاختلاف في كل شئ في اللون والجنس والدين والمعتقد والاثنية والثقافة والمناطقية (الولايات) وفي كل شئ، الا ان المجتمع فيها نجح وبامتياز في صهر الخلافات في
بوتقة واحدة ثم توجيهه صوب الصالح العام، هم لم يقضوا على الخلاف ابدا، ولكنهم سيطروا عليه بطريقة تخدم حاضرهم ومستقبلهم، ولا اريد هنا ان اشرح بالتفصيل كيف انهم سيطروا على الخلاف
وروضوه لتحقيق اهدافهم الكبيرة، فان الشرح في ذلك يطول كثيرا.
مقابل هذا المثال، هناك مثل آخر هو
بلدنا العراق، كانموذج للخلاف في مجتمعات البلاد العربية والاسلامية عموما، ففي العراق كذلك عندنا الخلاف في كل شئ، في الدين والمذهب والمعتقد والانتماء السياسي والمناطقية والطبقية
الاجتماعية وفي كل شئ، الا اننا، وللاسف، للان لم نعرف كيف نروض هذا الاختلاف من اجل تحقيق الصالح العام.
ولحسن حظ الانسان هو ان الخلاف كان
دائما، وعلى مر العصور والازمان، عنصر تقدم وبناء ومنفعة، الا في العراق، خاصة خلال العقود الاخيرة من عمره، فانه لم يعد كذلك، بل تحول هذا الخلاف الى عنصر للتناحر والتمزق والاقتتال
والمقابر الجماعية وحلبجة والانفال والارهاب والعنف والتدمير، لماذا؟ لاننا ننكر الخلاف ولا نعترف به ولذلك لم نتعلم بعد كيف نتعامل معه، فالخلاف، لنقل، كالمرض، اذا لم يعترف به
الانسان، ولم يصارحه به الطبيب، لم يتعلم كيف يتعايش معه ويروضه، ولذلك يقضي عليه في اسرع وقت ممكن، وهذا هو الفرق بيننا وبين الغربيين في علاقاتنا مع المرض، فبينما يخبر الطبيب عندهم
مريضه ويصارحه بمرضه حتى اذا كان خطيرا، فياخذ المريض كافة الاستعدادات اللازمة من اجل مواجهته بالطريقة التي هي احسن فيتعايش معه على قاعدة امير المؤمنين عليه السلام {امش بدائك ما
مشى بك} ترى الطبيب عندنا يخفي المرض ونوعه وخطورته حتى على صاحب الشان، المريض، ولذلك لم يستعد الاخير للتعامل معه بالطريقة السليمة، وعندما يطلع على الحقيقة يقتله المرض ليس بسبب
المرض نفسه، وانما بسبب هول صدمة المعرفة بالمرض وحقيقته وخطورته.
ويخطئ من يظن ان سبب نجاح مجتمع ما هو
قضاءه على الاختلافات، ابدا، فهذا امر مستحيل، اذ لا يوجد مثل هذا المجتمع على وجه البسيطة ابدا، انما تكمن حقيقة الامر في ان مثل هذا المجتمع تمكن بوعيه وثقافته وبالقانون الذي يحتكم
اليه من ان يوظف الاختلاف بطريقة ايجابية وسليمة انتجت النجاح، والعكس هو الصحيح، فاذا رايت مجتمعا فاشلا فتاكد بانه فشل قبل ذلك في التعامل مع الاختلاف، اما المجتمع الذي يفكر في
كيفية القضاء على الاختلاف فانه سيقضي كل عمره وحياته بحثا عن وهم وسراب لن يصل اليه ابدا.
وبالاختلاف يقام العدل والقسط
والاحسان الذي امرنا الله تعالى بها في قوله عز وجل {ان الله يامر بالعدل والاحسان} و {قل امر ربي بالقسط} وان المجتمع الذي لا ياخذ بنظر الاعتبار الاختلاف بين الناس، فانه سيلجا الى
نظرية (المساواة) التي تعني في اغلب الاحيان الظلم وعدم انصاف الناس، فالاب مثلا اذا لم ياخذ بنظر الاعتبار اختلاف ابنائه في المستوى الدراسي، لاعطى لكل واحد منهم مقدارا متساويا من
المال، ما سيلحق الظلم والغبن بابنه طالب الجامعة ويعطي الصغير الذي لا زال طالبا في المرحلة الابتدائية فوق ما يستحق وفوق ما يحتاج، وهذا هو المساواة، اما العدل والقسط والانصاف
فيحتم على الاب ان ياخذ بنظر الاعتبار اختلاف المراحل التعليمية بين ابنائه قبل ان يقرر مقدار ما يمنحهم من المال، ليعطي كل واحد منهم ليس بالتساوي وانما بالعدل الذي يعتمد الحاجة
والقدرة.
وكذا الاختلاف في المستوى التعليمي
وفي الخبرة والتجربة والنزاهة والشجاعة والاقدام وفي كل شئ، فان الاخذ بنظر الاعتبار كل هذه الاختلافات عند الناس يساهم في اقامة العدل والقسط والانصاف بينهم، ولقد اشار امير المؤمنين
علي بن ابي طالب عليه السلام الى هذا المبدا بقوله العظيم {قيمة كل امر ما يحسنه}.
ولذلك، فان المجتمع الناجح هو الذي
يعتمد الاختلاف في الثلاثي المقدس (العقل والمعرفة والجهد) لبناء علاقاته الانسانية، اما المجتمع الفاشل فهو الذي يعتمد قيم اخرى للاختلاف، كالاثنية واللون والمناطقية والانتماء
الحزبي والولاء للحاكم او لزعيم القبيلة او الحزب مثلا، والاول يستند بتقييمه للافراد على قيم حضارية حقيقية كالكفاءة والخبرة والتجربة والنزاهة وروح المسؤولية والقدرة على العمل بروح
الفريق، فيما يستند الثاني الى قيم فاسدة غير معقولة وغير منطقية كالمحسوبية والرشوة والمحاصصة والانتماء الحزبي وغير ذلك عند تقييم الافراد، ولذلك ينجح المجتمع الاول ويفشل المجتمع
الثاني.
هنا يقفز
السؤال التالي: لو ان الاختلاف سنة الحياة التي لا يمكن الغاءها، فلماذا يتنكر لها البعض؟ او يسعى للقفز عليها فيحاول ان يتعامل مع الاخرين وكان الاصل في العلاقة هو التطابق في
كل شئ؟.
الجواب:
لو تتبعنا صفات مثل هذه النماذج من البشر، لامكننا ان نؤشر على بعض الصفات السيئة التي تدفعهم للتفكير بهذه الطريقة الخاطئة، فمثل هذه الشريحة؛
اولا: تسعى الى
احتكار الحقيقة، بعد ان رسمت في ذهنها قوالب فكرية معينة تتصور انها المقياس المطلق الذي يجب ان يقيس عليه الاخرون مدى قربهم او بعدهم عن الحق، ولقد اشار امير المؤمنين عليه السلام
الى هذا المعنى بقوله عليه السلام {المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما انكروا}.
ان الذي يحتكر الحقيقة لا يمكنه ان يعترف بالاختلاف مع الاخرين، لان الاختلاف يعني تقاسم الحقيقة، وهذا نقيض طريقته في التفكير والتعامل في
الوسط الاجتماعي، ولذلك فهو لا يحتمل الخلاف والاختلاف.
ثانيا: انها لا
تمتلك منطقا ودليلا وحجة، ولذلك تسعى لالغاء الاختلاف والسعي لتثبيت راي واحد وموقف واحد وهو ما تعتقده هي وتعتبره حقا، اما الراي الاخر، فاما ان يتغير ليتطابق مع ما تراه او تلغيه
ولو بالقتل.
ثالثا: عاجزة عن
الاقناع بادواتها الحضارية السلمية والسليمة فتراها تلجا الى القتل وتصفية الاخر بعد ان تلغي الاختلاف وكان كل راي غير ما تراه او تقوله كفر ينبغي اجتثاثه من المجتمع.
رابعا: لا تؤمن
بالتطور، ولذلك تحاول الغاء الاختلاف لانه ينتهي بالمجتمع الى التطور، ولقد ظلت مثل هذه الشريحة وعلى طول التاريخ القديم والحديث تتشبث بالماضي لالغاء الاختلاف، وكأن الموروث هو
الحق المطلق الذي لا يجوز لاحد نقده او مناقشته او الخروج عليه، فهي تقدس الافكار وتعبد الاشخاص وتؤله الرموز، ولذلك ترفض الاختلاف وكان شعارها دائما {بل قالوا انا وجدنا آباءنا
على امة وانا على آثارهم مهتدون} و {قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}.
وتتمثل هذه
الشريحة المتخلفة اليوم في المجتمع (الاسلامي) بالحزب الوهابي الذي يلجا الى الفتوى (الدينية) لانكار الاختلاف، فيتعبر ان اي اختلاف يقود الى النار ولذلك ينبغي الجهاد من اجل
ان يكون الناس امة واحدة لا اختلاف في آرائها ومعتقداتها ومواقفها واساليبها وادواتها، وربما لهذا السبب كفر الوهابيون الاخرين واجازوا قتالهم واباحوا دماءهم واعراضهم واموالهم، لانهم
لا يعتقدون الا بانفسهم، ولا يؤمنون الا بطريقتهم التي وصفها فرعون ذات مرة، وهو يحاول ان يحشد الناس ضد نبي الله موسى عليه السلام واخيه هارون عليه السلام{قالوا ان هذان لساحران
يريدان ان يخرجاكم من ارضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} او كقولهم {قالوا اجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكم الكبرياء في الارض وما نحن لكما بمؤمنين}.
ان جماعات العنف والارهاب، والجماعات
المتزمتة والمتطرفة في المجتمع، هي شرائح لا تؤمن بالاختلاف، ولذلك تمارس القتل، ولو كانت تؤمن بالاختلاف للجأت الى المنطق والحوار مع الاخر الذي يختلف معها في الفكر والعقيدة والراي
والموقف، ومن اجل ان نقضي على هذه الظاهرة، علينا جميعا ان نبذل قصارى جهدنا من اجل اشاعة ثقافة الاختلاف، فـ (رايك صحيح يحتمل الخطا، ورايي خطأ يحتمل الصواب) على حد قول احد
الفلاسفة.
انها جماعات ترى نهايتها في الاختلاف
وليس في الاتفاق، فالاول قد يظهر خطاها فينفض عنها الناس ويكفر بها الراي العام، ولذلك يلغون الاختلاف ويسعون لفرض نهج واحد في المجتمع يؤمن لهم ديمومة ما لزمن ما.
وان من اخصب الارضيات التي تنمو فيها
فكرة الغاء الاختلاف هي الديكتاتورية والنظم الاستبدادية والشمولية والبوليسية، لانها تمنع الراي والراي الاخر وتحجر على اي نوع من انواع الحوار الحر والمستقل، بسبب انها لا تحب
التغيير ايا كان نوعه ومصدره لان مجرد التفكير برايها يشكل بداية النهاية بالنسبة لها.
ان الديكتاتورية تشجع على الغاء
الخلافات من اجل ان تقضي على الراي والراي الاخر، كما انها تقمع الاختلاف لانها لا تريد ان تسمع معارضا يدلي لها بحجج تختلف عما تسوقه هي فقط الى الراي العام، ولذلك كان فرعون، وهو
انموذج الديكتاتور عبر التاريخ، كان يمنع قومه حتى من مجرد التفكير، فكان يقول لهم {قال فرعون ما اريكم الا ما ارى وما اهديكم الا سبيل الرشاد} فنهجه هو الوحيد الذي يهدي الناس الى
الرشاد فعلام الخلاف والاختلاف اذن؟.
ومن اجل ان تبهر الديكتاتورية عقول
الناس وابصارهم، وتبرر قمعها للراي الاخر، تراها تسوق احلى الكلام واعذب العبارات وهي تحارب الاختلاف كقولها ان الاختلاف يضعف معنويات الامة وان اي حوار عام يشتت طاقاتها ويقلل من
شانها وباسها امام العدو، ولذلك ينبغي ان نقضي على الاختلاف ليتفرغ الناس لمصالحهم، كما هو حالها اليوم في العديد من البلاد العربية وهي تسعى لقمع انتفاضة الشعوب الثائرة بالقوة
والعنف والقتل والتدمير، هذه الشعوب التي تريد ان تستعيد كرامتها بالانعتاق من الديكتاتورية والتمتع بالحرية، فترى النظام السياسي العربي الفاسد يلوم الشعوب لانها اختلفت، لماذا؟ لانه
يرى نهايته في الاختلاف، هذا الاختلاف الذي بدا يفتح آفاقا جديدة من الحوارات الحرة.
ان الاختلاف هو الذي يبصر الناس
عيوبهم، وهو الذي ينقد الحاكم ويفضح مظالمه، وهو الذي يمنح الراي العام القدرة الى التمييز بين النجاح والفشل، وبين الصحيح والخطا، وهو الذي يساعده على التفكير بصوت عال بحثا عن
حقوقه، وان كل ذلك لغير صالح الديكتاتورية ولذلك تحاربه وتسعى للقضاء عليه.
ان الديكتاتورية مرض خطير ليس على
مستوى النظام السياسي الحاكم فحسب وانما في كل موقع من مواقع المجتمع، فهي خطيرة اذا تحكمت في الوسط العائلي والتعليمي والمهني وفي كل مكان، فالديكتاتورية في العائلة مثلا تمنع
الاختلاف بين الابناء والوالدين وبين الوالدين انفسهم، ما تدع العائلة تعيش على نمط واحد ووتيرة واحدة، وبالتالي لن تشهد اي تطور وتقدم، فالاب الديكتاتور الذي يقمع اولاده ولا يدعهم
يعبروا عن انفسهم بالطرق السلمية والسليمة، بحجة انه يخاف عليهم من الاختلاف الذي قد يمزق اوصال العائلة، انما يقودها الى حتفها ان عاجلا ام آجلا، لانه بذلك سيربي اولادا مقموعين
سيبحثون عن اية طريقة غير مشروعة في المستقبل عندما يكبروا ليعبروا بها عما فاتهم، وفي اغلب الاحيان فانهم يختارون العنف كطريق للتعبير عما ظل مكبوتا في انفسهم.
بقي ان نثير
سؤالا واحدا في غاية الاهمية، الا وهو: متى يكون الخلاف ايجابيا، ومتى يكون سلبيا؟ اي متى نبني بالخلاف ومتى ندمر؟ اي متى يكون الخلاف والاختلاف رحمة كما في قول رسول الله (ص)
{اختلاف امتي رحمة}؟ ومتى يكون نقمة؟.
يمكن لنا ان نستوحي الجواب الصحيح من
جواب لامير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام على سؤال لبعض اليهود عندما قالوا له: ما دفنتم نبيكم حتى اختلفتم؟ فقال عليه السلام {انما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ما جفت ارجلكم
من البحر حتى قلتم لنبيكم (اجعل لنا الها كما لهم آلهة، قال، انكم قوم تجهلون)}.
فعندما يكون الخلاف من اجل
الحقيقة فذلك هو الخلاف الذي يبني، اما الخلاف الذي ليس من اهدافه ابدا الوصول الى الحقيقة، اي خلاف من اجل الخلاف، والمراء والجدال العقيم، فذلك هو الخلاف الذي يدمر، ولقد قال امير
المؤمنين عليه السلام {فمن جعل المراء ديدنا لم يصبح ليله}.