Back Home Next

حال المسلمين قبل وبعد سقوط الخلافة الاسلامية ببغداد #2

مقتبس من كتاب التاريخ لمؤلفه عبد المعطي الصياد
 بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف

ridhaalattar@yahoo.com

 

 

 

مخطوطة تصور حصار المغول لبغداد عام 1258 ميلادية قبل اقتحامها

 

 

وفي يوم الثلاثاء 22 المحرم 1258 احكم جيش المغول حصاره حول مدينة  بغداد. وكانوا يطلقون يد التخريبب في المدينة ويفتحون الابراج حتى استولوا على القسم الشرقي من التحصينات، ولما شاهد الخليفة حرج موقفه، اراد ان يهدّئ المغول ويثنيهم عن عزمهم على اتمام سيطرتهم على بغداد وذلك بارسال الهدايا والتحف ولكن هولاكو لم يستجب لهذا النداء،  وارسل نصير الدين الطوسي الى الخليفة يامره باحضار سليمان باشا والدواندار،  وراى الخليفة نفسه مضطرا الى اطاعة هذا الامر، فلما وصلا اليه اعادهما الى بغداد لأصطحاب اتباعهما من الاهل والاقرباء، بغية اخراجهم من العراق،  فلما حضروا، وكان عددهم يناهز 700 شخصا، امر هولاكو بذبحهم عن اخرهم.

 

 بعد ذلك امر هولاكو بقتل الدوندار وسليمان باشا وتاج الدين وارسل رؤوسهم الى صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ ليعلقها على اسوار مدينته، ورغم ان سليمان باشا كان صديقا حميما له، الا انه اذعن لامر هولاكو. 

 

يقول المؤرخون: كان الفارس العباسي وتحته فرسه العربي وعليه السلاح،  كانه وفرسه الجبل العظيم، ثم يخرج اليه من المغول فارس عاري الجسم تحته فرس كانه حمار وفي يده رمح كانه المغزل، وليس عنده سلاح. فيضحك منه كل من يراه. ثم ما تم النهار حتى كانت لهم الكرة، فكسرونا كسرة عظيمة كانت مفتاح الشرور،  ثم كان من الامر ما كان - - - 

وفي يوم الاحد 4 صفر (10 من فبراير 1258) خرج الخليفة المستعصم من بغداد وسلم نفسه وعاصمته للمغول دون قيد ولا شرط بعد ان وعده هولاكو بالامان، لكنه نكث وعده.

 

والرواية الشائعة تذكر انه على اثر الهزيمة التي مني بها جيش الخليفة، خرج الوزير مؤيد الدين بن العلقمي الى هولاكو، فتوثق منه لنفسه. وعاد الى المستعصم واخبره ان هولاكو يبقيه في الخلافة كما فعل بسلطان الروم. ويريد ان يزوج ابنته من ابنه ابي بكر، وحسّن له الخروج الى هولاكو، فخرج الخليفة من بغداد ومعه ابناءه الثلاثة مطمئنا، فلما وصلوا الى هولاكو، بدأ هذا يلاطفهم ويطيب خاطرهم. ثم طلب من الخليفة ان ينادي في الناس بالقاء اسلحتهم والخروج من المدينة لاحصائهم. فلما القى الناس اسلحتهم وخرجوا، قُتلوا جميعهم.

اما الخليفة واولاده فقد وضعوا في معتقل، وكان الخليفة يرى انه هالك لا محالة.

 

هولاكو والمستعصم وجه لوجه داخل قصر الخلافة العباسية ببغداد –

ثم امر بعد ذلك بردم الخنادق وهدم اسوار بغداد، كما امر باقامة جسر على نهر دجلة.

 

وفي يوم 7 صفر، اعلن الهجوم العام على المدينة، وذلك بان كلف القوات المغولية المتحشدة شرق بغداد بدخول المدينة من الشرق. كما كلف القوات المغولية المرابطة على الشاطئ الغربي بعبور الجسر واقتحام المدينة من الغرب. فدخلها هؤلاء وهؤلاء واتوا على كل ما فيها.

 

فخربوا المساجد بقصد الحصول على قبابها الذهبية وهدموا القصور بعد ان سلبوا ما بها من تحف نادرة واباحوا القتل العام والنهب وسفك الدماء.  فكان استهتار المغول بالنفوس بالغا حد الفظاعة - - 

ويقدر المعتدلون من المؤرخين عدد القتلى بنحو 800  الف نسمة. ولم يسلم الا من اختفى في الابار ومجاري المياه والقبور.

وقد استمرت هذه الغارة مدة اربعين يوما، اندلعت فيها السنة النيران في كل مكان. فالتهمت كل ما صادفها واتت على الاخضر واليابس وخربت اكثر الابنية وجامع الخليفة، ومشهد الامام موسى الكاظم وقبور الخلفاء في جانب الرصافة.

 

وعندما دخل هولاكو عاصمة الامبراطورية العباسية، بغداد، قصد قصر المستعصم، وجلس على عرش الخلافة، واحتفل مع قواده بذلك اليوم، وامر باحضار الخليفة، وقال له: (انت المضيّف ونحن الضيوف، فيجب عليك ان تقوم بواجب الضيافة) فصدق الخليفة المسكين، وكان يرتعد خوفا، واستولى عليه الذعر واعتراه الذهول لدرجة انه لم يعد يعرف اين وضع مفاتيح خزائنه.  فامر جنده بكسر الاقفال واخراج النفائس البديعة والمرصعات النادرة والجواهر العديدة، قدمها هدية لهولاكو الذي لم يعر تلك الاشياء التفاتا،  بل وزعها على اتباعه،  ثم قال هولاكو للخليفة (هذه الاموال التي تملكها هي  سحت الارض،  امرها واضح، ماهي الا غنائم وهي من نصيب جنودنا.  والان نريد ان تكشف لنا عن الدفائن فما هي؟

واين توجد ؟ - -

عندئذ اعترف الخليفة بوجود حوض داخل قصرالخلافة مملوء بالذهب، فلما كشفوا عنه، وجدوه مملوءا بقطع الذهب الابريز.  وكانت كل قطعة تزن 100 مثقال، ثم امر هولاكو بان يحصوا حرم الخليفة وحاشيته، فخرج 700 من النساء وهن في ثياب السندس والاستبرق، مثقلات بشتى انواع المجوهرات، يقوم بخدمتهن 1000 من الغلمان.

عندئذ تضرع الخليفة الى هولاكو ليمنحه تلك النسوة اللائي (لم يكن يطلع عليهن ضوء الشمس ولا نور القمر).  فامر هولاكو بان يختار من بينهن المحببات اليه.  ثم رجع هولاكو الى معسكره. وفي الصباح كلف احد قواده بان يضبط اموال الخليفة ويخرجها.  فجمع هذا كل ما كان الخلفاء العباسيين قد ادخروه خلال خمسة قرون متوالية.

 

واخيرا بعد ان سفك هولاكو من الدماء ما سفك وبعد ان خرب ما خرب اصدر امره بان ينصرف كل الى عمله.  ولما نودي بالامان خرج من تحت الارض من كان بالمطامير وتحت الانقاض وفي ظلام المقابر، كأنهم موتى قاموامن قبورهم وقد انكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده ولا الاخ اخاه، ثم اخذهم الوباء بعد حين فلحقوا بمن سبقهم. 

 

والان تبرز مسألتان هامتان:

  1. كيف عامل المغول خليفة المسلمين المستعصم؟

  2. وعلى اي نحو قتلوه؟

 

اما عن المسئلة الاولى: فتذكر المصادر ان هولاكو عامل الخليفة معاملة سيئة للغاية، حيث انه حرّم عليه الطعام، فلما احس الخليفة بالجوع وطلب طعاما، قدم اليه هولاكو بنفسه حاملا له طبقا مملوءا بالذهب وامره ان ياكل،

فقال الخليفة: كيف يمكن اكل الذهب ؟

فرد عليه هولاكو: اذا كنت تعرف ان الذهب لا يؤكل، فلماذا احتفظت به ولم توزعه على جنودك كي يصونوا ملكك الموروث من هجمات جيشي ؟ ولم لم تحول تلك الابواب الحديدية في قصورك الى سهام، تسرع بها الى نهرنا  جيحون لتحول دون عبور جيشنا؟ - -

فاجاب الخليفة (هكذا كان تقدير الله)

فقال هولاكو (وماذا سوف يجري عليك انما هو كذلك تقدير من الله) - - - 

ترك هولاكو الخليفة اربعة ايام دون طعام الى ان مات جوعا وعطشا، ثم لُفّ جثمانه ببساط وسُحق تحت حوافر الخيل، لان المغول من عادتهم في الحروب ان لا يسفكون دم السلطان.

 

بعد هذا ننتقل الى الحديث عن الاشخاص الذين كانت بايديهم مقاليد الامور في دولة المستعصم ولعبوا دورا بارزا في سقوط بغداد وكان موقفهم محاطا بالشكوك والشبهات ومثارا للقيل والقال وفي مقدمة هؤلاء يرد اسم ابن العلقمي الذي كان وزيرا للخليفة المستعصم ابان الغزو - - - 

كان ابن العلقمي يتولى رئاسة الحكومة للخليفة المستعصم مدة اربع عشرة سنة، كان كفئا خبيرا بتدبير شؤون الدولة وكان المستعصم اول من يثق به ويطمئن اليه - -  لكن كونه عُيّن وزيرا في حكومة المغول، زادت الشكوك حوله ورموه المراقبون انه كان متواطئا مع العدو القادم لغزو العراق. 

 

وقبل ان اختم هذا المقال يجدر بي ان اذكر حقيقة، وقد ضاعت على الجمهور العربي بان هولاكو لم يرمي بالكتب العلمية والحضارية في نهر دجلة، كما يروج لها الصهيونية العالمية زاعمة ان حضارة العرب انتهت في دجلة حين قذف هولاكو بالنهر كتبهم العلمية. ان هولاكو لم يرمي في النهر غير كتب الشعراء والخطباء ومدوني جلسات الخلفاء وحسابات الجند ومصروفات الجواري والغلمان، في حين احتفظ هولاكو بالكتب العلمية وباعها في اوربا بما يعادل وزنها ذهبا، وبفضل حضارة بغداد استطاعت اوربا ان تخرج من عصورها المظلمة وتدخل عصر النهضة، ويشهد العالم اليوم بان النهضة الاوربية ما قامت الا بتأثير الحضارة الاسلامية العربية، وما وجود التماثيل النصفية لبعض نبغاء العرب التي تزين اليوم مداخل بعض الجامعات الغربية الا دليل على ما اقول.

 

اما نتائج سقوط الخلافة الاسلامية في بغداد عام 1258 على ايدي المغول:

بعد سقوط بغداد، وانقراض الخلافة العباسية كان من اكبر الوقائع التي حدثت في التاريخ، ولقد كان لهذا الحدث اسوأ الاثر في نفوس المسلمين جميعا، واعتبرت هذه المأساة لطمة قاسية وبلاء شديد نزلت عليهم، بعد ما انتهكت حرمتهم على يد المغول اهل الكفر والشرك، الذين صوبوا طعنة نجلاء الى مقام الخلافة المقدس والى اسرة نبي الاسلام عليه السلام. فلا غرو ان كان لهذا الحدث نتائج خطيرة نلخصها فيما يلي:

 

  1. كان المسلمون يتطلعون الى الخلافة على انها رمز للممالك الاسلامية جميعها، يجب ان يظل قائما، وكانوا ينظرون الى الخليفة نظرة اجلال واحترام وعلى هذا كان نفوذه الديني بعيد الاثر في نفوس المسلمين جميعا، وعلى الرغم من ان الخلافة العباسية كانت قد فقدت جانبا كبيرا من قوتها المادية، الا انها كانت لا تزال تدخر قدرا كبيرا من سلطانها الادبي والروحي، فلما سقطت بغداد وقتل الخليفة، قُضي على هذا النفوذ وزال ما كان لتلك العاصمة من مكانة دينية ممتازة.

  2. كانت بغداد قبل حملة المغول مركزا للنشاط السياسي في جميع انحاء العالم الاسلامي، يؤمها وفود الحكام والامراء المسلمين وكانت الروابط  تربط بينها وبين مختلف العواصم، فلما سقطت في ايدي المغول صارت بغداد مدينة ثانوية يعين عليها وال. وانتقل النشاط كله الى مدن ما وراء النهر، اذ انها اخذت تلعب دور العواصم الكبرى، ففقدت بغداد بذلك اهميتها السياسية - - - لكن بغداد اخذت تستعيد ماضيها رويدا رويدا بنظافتها ونظامها وترتيبها، لكنها بقيت مدينة اقليمية بعد ان تقلص حجمها الى عشر حجمها السابق، وظلت هكذا لاربعين سنة اخرى.

فقد آلت السيطرة على بغداد بعد رحيل هولاكو الى ابنائه الذين صاروا يستقلون تدريجيا واسسوا لانفسهم دولة في ايران عرفت باسم الدولة الايلخانية.

  1. كانت بغداد مركزا هاما للعلوم والاداب والفنون، يهرع اليه العلماء وطلاب العلم للتزود بالثقافة الاسلامية التي كانت تتمثل فيها باجلى معانيها، أجل ! - - كانت تلك المدينة غنية بعلمائها وادبائها وفلاسفتها وشعرائها وكان كل هؤلاء بمثابة اساتذة وقادة لرجال العلم والادب في مختلف انحاء الشرق الاسلامي، ولما حلت النكبة ببغداد على ايدي المغول، قتل آلاف من العلماء والشعراء وشرد من شرد، فلجأوا الى مصر والشام وغيرهما من البقاع، واحرقت المكتبات وخربت المدارس والمعاهد وقضي على الاثار الاسلامية التي تعب الفنانون في ابداعها كل هذا التراث المجيد قد اصبح في التراب اثرا بعد عين. - - -  

ان سقوط بغداد الذي اعقب سقوط نيسابور وبخارى والري (طهران الحالية) وغيرها من مدن العلم والادب كان حقا جناية كبرى في حق الحضارة الانسانية، اذ فقدت اللغة العربية تلك المكانة المرموقة التي كانت عليها قبل الغزو المغولي.  كانت عواقبها، ان تفوقت اللغة الفارسية على اللغة العربية، ورغم ان اهتمام الادباء والكتاب الايرانيين باللغة العربية كان بالغا الا ان اهتمامهم بلغتهم كانت اقوى واشد. - - -  

يقول الباحث براون (ان تحطيم عاصمة المسلمين بغداد وانزالها الى مرتبة المدن الاقليمية تعتبر بلطمة شديدة للوحدة الاسلامية، كما اصيبت اللغة العربية في ايران بضربة قاضمة، فاقتصر استعمالها بعد ذلك على العلوم الفقهية، فلم نعد نصادف الا القليل النادر من الكتب العربية التي تم تأليفها في ايران)

  1. تاثر المسلمون اشد التاثر لسقوط بغداد.  وخلو الارض من وجود خليفة يكون في المقام الروحي المطلوب، فقد شعر المسلمون بان تدمير العاصمة بغداد جعل زعامة المسلمين شاغرة، يتطلع لاحتلالها كل زعيم طموح من المسلمين.  فلما تولى السلطان المملوكي الظاهر ببيرس عرش مصر بحث عن احد افراد الاسرة  العباسية، وعندما  وجده نصبه خليفة، كان ذلك عام 1260 وهكذا استعيدت الخلافة الاسلامية في القاهرة بعد غياب سنتين.  وكان هدف السلطان ان يكسب الصفة الشرعية بفضل التقليد الذي حصل عليه من الخليفة. وقد استمر وضع الخلافة هذا قائما في مصر الى ان استولى عليها السلطان العثماني سليم الاول عام 1517 وبذلك انتقلت الخلافة الى الاستانة (اسطنبول) حاضرة العثمانيين.

  2. لقد اثار حادث سقوط بغداد الحزن العميق والجزع الشديد في جميع انحاء البلاد الاسلامية والتي احست بالخطر الداهم، خصوصا بعد ان توقف قلبها وانتزعت منها كعبتها وانفرد عقد الوحدة الاسلامية المقدس، وقد بدأ المسلمون يتسائلون ماذا عسى ان يكون الوضع بعد بغداد ؟ ان الاعداء لا زالوا واقفين كالمرصاد يعتدون على الاوطان ويخربون الديار. فاذا كانوا بالامس قد اسقطوا بغداد فانهم اليوم يهددون دمشق والقاهرة.

 

واذا كان لهذا الحادث الجلل تاثيره العميق في نفوس المسلمين فكيف كان وقعه في نفوس الشعراء والادباء وكان من بين تلك المراثي ما قالها تاج الدين اسماعيل، هي:

فما وقوفك والاحباب قد ساروا

 

 اسائل الدمع عن بغداد اخبارا

 به المعالم قد عفاه اقفارا

 

 تاج الخلافة والربع الذي شرفت

وللدموع غلى الاثار آثارا

 

 اضحى لعطف البلى في ربعه اثر

 

 

وهذه المرثية من شمس الدين الكوفي، اليك بعض ابياتها:

ك البهاء وذلك الاعظام

 

يادار اين الساكنون واين ذا

وشعارك الاجلال والاكرام

 

يا دار اين زمان مجدك موقنا

نار لها بين الضلوع ضرام

 

يا غائبين وفي الفؤاد لبعدكم

مالم تخيله لي الاوهام

 

ولقيت من صرف الزمان وجوره

وباي ارض خيموا واقاموا

 

ياليت شعري كيف حال احبتي

 

 وهذا الشاعر الفارسي الشهير سعدي الذي عاصر غزو المغول لبغداد لم يستطع ان يخفي مشاعر حزنه لهول هذا المصاب فنظم قصيدة بالفارسية، هذا مطلعها بعد الترجمة:

 لزوال ملك المستعصم امير المؤمنين

 

 للسماء حق اذا بكت على دم

 

كما نظم سعدي قصيدة باللغة العربية، هذا مطلعها:

تمنيت لو كانت تمر على قبري

 

نسيم صبا بغداد بعد خرابها

 

* المغول في التاريخ لمؤلفه د. فؤاد عبد المعطي الصياد، دار النهضة العربية للطباعة والنشر بيروت 1980 مع التصرف