Back Home Next

حال المسلمين قبل وبعد سقوط الخلافة الاسلامية ببغداد #1

مقتبس من كتاب التاريخ لمؤلفه عبد المعطي الصياد
 بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف

ridhaalattar@yahoo.com

 

 

 

مخطوطة تصور حصار المغول لبغداد عام 1258 ميلادية قبل اقتحامها

 

اقرأ هذا المقال،  لتطّلع على اوضاع الدولة العباسية، قبل ان يجتاحها المغول عام 1258.     هذه الاوضاع تطاول عليها الزمن وبدت عليها مظاهر الضعف والتدهور بسبب :

  1. اعتماد الخلفاء على الفرس في العصر العباسي الاول وكيف ان الفرس  نفذوا الى اجهزة الدولة وسيطروا على مقدراتها، فاصبحوا هم حكام البلاد الفعليين، فأذلّوا الخلفاء واهانوا  الشعب واحتقروه، الى درجة، ان الامراء البويهيين الفرس قد اقتحموا غرفة نوم الخليفة العباسي المستكفي فاعتقلوه، ثم خلعوه من الخلافة. 

  2. بعد  ذلك جاء الاتراك بعد ان فتح لهم الخليفة المعتصم الباب على مصراعيه فاستأثروا بالحكم وطغوا على  السلطان، وتمادوا في غيهم حتى وصلت يدهم الاثيمة الى قتل بعض  الخلفاء، كان المتوكل اولهم - - - ولا شك ان تهاون المسؤولين العراقيين وانصرافهم عن امورالشعب، كان من اهم العوامل التي ادت الى زوال هيبة الخلافة وسخط الشعب عليهم، الامر الذي اطمع ولاة الامصار في الاستقلال بولاياتهم وعدم تنفيذ الاوامر الصادرة من الحكومة المركزية في بغداد.

 

يقول المؤرخ الشهير فيليب حتي في التاريخ العربي (المطول)، ج2 :

 (بعد اعتلال الخلافة العباسية وشغب اصحاب المصالح وتطاولهم على السلطة واستئثارهم بالنفوذ والصولة، كان له اعظم الاثر في وهن السلطة المركزية.  فالخلفاء صاغرون اذلاء قد رضوا لانفسهم الاساءة والهوان ، وهم يستوون مع الوزراء والقضاة وقواد الجيش في انهم راشون مرتشون، يعيشون في جو من الغموض والريبة، في غياب الاستقرار والامان، وكثرة نقض العهود والتحلل من الايمان بسبب التنافس على عرش الخلافة. ان سوء الحالة الاجتماعية والانغماس في البذخ والترف، والعكوف على التسرّي والطرب والاخذ باسباب اللهو والمجون الى حد الافراط، وما رافق ذلك من نظام الحريم والخصيان، واقتناء الجواري والغلمان، وتدني مقام المرأة، وانحراف اخلاق  الشباب وذهاب المروءة منهم، واثارة الفتن واشاعة الفساد، كل ذلك ساعد على تقويض معنويات الشعب ومهدت الطريق للغزو المغولي.

 

لم يكن زمام الامور في بغداد متركزا في يد واحدة، بل كانت هناك ايادي مختلفة متعارضة، كل منها يجور على الاخرى، ويتدخل في عملها، انهم كانوا متنازعين متباغضين، وفوق كل هذا كان الخليفة مسلوب الارادة، ضعيف الشخصية متدينا لين الجانب قليل الخبرة بامور المملكة غير مهيب في نفوس الشعب، شديد البخل، يكنز الاموال ويكدس الذهب،  شغوف بالطرب،  يقضي اكثر وقته بسماع الاغاني – وفي الوقت الذي كان جيش المغول يتحشد على تخوم بلاده، ارسل الخليفة جماعة من ندمائه الى صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، يطلب منه المزيد من الجواري الاجنبيات والالات الموسيقية التي وصلت توا. لكن هذا الرجل المؤمن كان مطلعا على الموقف العسكري الخطير، فرد عليهم بالقول : (انني ابكي على الاسلام) .  

 

كانت الاخبار تصل الخليفة تباعا باقتراب جيش المغول ومع ذلك لم يتخذ الاستعداد لمواجهتهم، قبل ان يستفحل خطرهم او على الاقل مصانعتهم ومداهنتهم، بل كان متهاونا لم يعر الموقف العسكري اهتمامه اللازم، وكان امامه طريقان:

  1. اما المداراة والدخول في طاعة العدو القادم  وتوخي مرضاته، 

  2. او تجييش العساكر ومواجهته عند حدود خراسان قبل تمكنهم من الاستيلاء على العراق - - -

بل كان الخليفة يقول (انا بغداد تكفيني ولا يستكثرها المغول علي، اذا تنازلت لهم عن باقي الامبراطورية، ولا ايضا يهجمون عليّ وانا بها، وهي بيتي ودار مقامي وهي في رعاية الله)

 

رغم ان المستعصم كان ضعيف الراي كثير الغفلة عما يجب تدبيره، كان يظن في نفسه القدرة على المكر والصمود امام الخطر المغولي، فخالف بذلك السياسة التقليدية التي درج عليها اسلافه زمنا طويلا مع السلطات الاجنبية الغازية للعراق، كالبويهيين والسلاجقة، اذ كانت القاعدة السياسية عندهم، ان يجاروا هؤلاء السادة عندما تطغى قوتهم، فكانوا يستسلمون الى جانبهم، يعطوهم ما شاؤا، لكنهم كانوا يتمسكون بالسلطة الروحية ويترقبون الى ان تستنفذ تلك السيادة الوقتية قواها، حتى اذا اتاحت الفرصة للخليفة ولمس بادرة ضعف هؤلاء، عاد فرفع راسه وعمل على انهاء تلك السيادة، فكانت الخلافة ابقى من هؤلاء الغزاة الذين لا يعمرون دهرا طويلا، لكن مصيرهم في النهاية الى الزوال، اما الخلافة فان لها الخلود - -  على حد تعبير الخليفة المستعصم في رسالته الى هولاكو: (ان كل سلطان قصد اسرة العباسيين ودار السلام بغداد، صارت عاقبته وخيمة.  ومهما كانت قوتهم وجبروتهم، فان بناء هذه الاسرة محكم للغاية، وسوف تدوم الخلافة الاسلامية الى يوم القيامة)

 

سير حملة هولاكو ودخول المغول الى بغداد

ارسل هولاكو من مدينة همدان الايرانية في شهر رمضان عام 1257 رسولا، يحمل رسالة الى الخليفة العباسي المستعصم، مصاغة في قالب من التهديد والوعيد، اذا امتنع منحه السلطة الزمنية التي سبق ان منحها الخلفاء في بغداد لامراء البويهيين ثم السلاطين السلاجقة.  يقول هولاكو في هذه الرسالة :

 

(لا بد انه قد وصل الى سمعك على لسان الخاص والعام ما حدث للعالم على ايدي الجيوش المغولية منذ حملات جنكيزخان،

وعلمت أية مذلة لحقت باسر الخوارزميين والسلاجقة وملوك الديلم وسلاطين الاتابكة وغيرهم ممن كانوا ارباب العظمة واصحاب الشوكة،

ومع ذلك لم يغلق باب بغداد قط في وجه اية طائفة من تلك الطوائف التي تولت هنا السيادة. فكيف يغلق هذا الباب في وجهنا،  رغم ما لنا من قدرة وسلطان ؟ - - - 

وقد نصحتك قبل هذا، والان نقول لك : تجنب الحقد والخصام، ولا تحاول ان تقف في سبيلنا، لانك ستتعب نفسك عبثا.  ومع هذا فقد مضى ما مضى،

فعليك ان تهدم الحصون وتطمّ الخنادق ثم تتوجه لمقابلتنا.  واذا كنت لاتريد ذلك، فارسل الينا قائد جيشك سليمان باشا والدواندار، ليواصلا رسائلنا اليك بغير زيادة او نقصان،

فاذا اطعت امرنا، فلا حقد ولا ضغينة، ونبقّي لك ولايتك وجيشك ورعيتك، اما اذا لم تنتصح، وسلكت طريق الخلاف والجدال، فاننا قادمون. 

واعلم انني اذا غضبت عليك وقدت الجيش الى بغداد، فسوف لا تنجو مني، ولو صعدت الى السماء او اختفيت في باطن الارض.  اما اذا اردت ان تحفظ راسك واسراتك، فاستمع لنصحي بمسمع العقل والا فسأريك كيف تكون ارادة السماء).

 

 

فرد الخليفة المستعصم تهديد هولاكو بالرفض وقال:

(ايها الشاب الحدث ! - -

الذي لم يخبر الايام بعد، والذي يتمنى فصر العمر، والذي اغرته اقبال الايام ومساعدة الظروف، فتخيل نفسه مسيطرا على العالم، وحسب ان امره قضاء مبرم وامر محكم.  لماذا تطلب مني شيئا لن تجده عندي ؟ ! - -

الا يعلم الامير انه من الشرق الى الغرب ومن الملوك الى الشحاذين ومن الشيوخ الى الشباب ممن يؤمنون بالله ويعتنقون الاديان، كلهم عبيد هذا البلاط وجنود لي ؟! - - - 

انني عندما اشير بجمع الشتات، سأبدأ من ايران ثم اتوجه منها الى بلاد توران واضع كل شخص في موضعه وعندئذ سيصير وجه الارض مملوء بالقلق والاضطراب - -

غير اني لا اريد الحقد والخصام ولا ان اشتري ضرر الناس وايذائهم، كما انني لا ابغي من وراء تردد الجيوش ان تلهج السنة الرعية بالمدح والقدح خصوصا وانني مع الخاقان هولاكو خان قلب واحد  ولسان واحد. - - -

فاذا كنت مثلي تزرع بذور المحبة فما شانك بخنادق رعيتي وحصونهم ؟! - - اسلك طريق الود وعد الى بلادك.  وان كنت تريد الحرب والقتال فلا تتوان لحظة، فان لي الوفا مؤلفة من الفرسان والرجال هم على اهبة الاستعداد لقتالك.)

 

اقول : لواننا امعنا النظر في رسالة الخليفة نجد انه هو الاخر كان حريصا على التهديد والوعيد، اكثر من حرصه على المسالمة والمهادنة، وربما كان يظن ان ذلك قد يرعب هولاكو ويجعله يفكر مليا قبل ان يقدم على خطوته.  ولكنه كان واهما في ظنه لانه لم يكن له سند حقيقي من قوة حتى يمكنه ان يقف هذا الموقف الصلب من قوة محاربين جبارين، دوّخوا الممالك وقوضوا العروش في مدة قصيرة من الزمن، ثم انه اذا كان يعتمد على العالم الاسلامي الذي يدعي انه رهن اشارته فقد اخطأ.

 

لان المستعصم كان اول من يعلم حقيقة العالم الاسلامي في ذلك الوقت.  كان يعلم انه فقد معظم اجزاء مملكته، وانه لا يزال يعاني الاثرة والانانية والتفكك والانحلال، فلا يعقل ان يهب لنجدته مهما كانت الاسباب.

 

ان هذه الامال كانت خادعة، اذ ان الايوبيين في الشام والمماليك في مصر، توافر عندهم  من المشاكل ما يمنعهم من النهوض لمساعدة بغداد في الوقت الذي لم يتحرك الفرس والترك في ايران لمساندة الخليفة بعد ان استبد بهم الخوف والرعب من المغول.

 

واذا كان من الطبيعي الاتجدي تلك التهديدات نفعا بل يكون لها على العكس اسوأ الاثر في نفس هولاكو، فيصمم قبل كل شئ على فتح بغداد وهذا ما حدث بالفعل.

 

وصل رسل الخليفة الى هولاكو، فلما اطلع هذا على رسالة الخليفة وعلم بما لحق رسله من اذى العامة في بغداد، غضب غضبا شديدا واعاد رسل المستعصم وحملهم رسالة اخرى تتضمن انذارا نهائيا له، صيغ في لهجة شديدة عنيفة، اذ يقول:

(لقد فتنك حب الجاه والمال والعجب والغرور بالدولة الفانية

بحيث انه لم يؤثر فيك نصح الناصحين بالخير

وان في اذنيك وقرا، فلا تسمع نصح المشفقين، وقد انحرفت عن طريق ابائك واجدادك،

واذن فعليك ان تكون مستعدا للحرب والقتال فاني متوجه الى بغداد بجيش كالنمل والجراد.

اما اذا جرى سير الفلك على شاكلة اخرى، فتلك هي مشيئة الله العظيم)

 

فلما عرضت هذه الرسالة على الخليفة، استشار كبار رجال دولته فيما عساه ان يفعل: فاعلمه قائد جيشه سليمان باشا، بضرورة اعلان النفير العام وتجنيد الفلاحين، لكن الخليفة فاجأه بالقول بان خزانة الامبراطورية خاوية وليس بالامكان عمل شئ وبغداد،  كما تعلم،  يحميها الله. 

 

اما الوزير الشيعي مؤيد الدين العلقمي رأى ان يبذل الخليفة الاموال والتحف والهدايا ويرسلها الى هولاكو مع تقديم الاعتذار اليه. فهذا كفيل بان يثني الغازي المغولي عن عزمه على فتح بغداد ولا يتعرض للخليفة بسوء، وكان المستعصم يميل الى الاخذ بهذا الرأي. - - - 

غير ان مجاهد الدين الدواندار السني رفض اقتراح الوزير واصرّ على ضرورة المقاومة، فعدل الخليفة عن رأي الوزير، ووافق على ما ارتآه الدوندار.

 

انتشارالمغول في  بغداد ودخول هولاكو قصر الخلافة   

وقبل ان يقدم هولاكو على غزو بغداد استشار المنجمين فيما يتعلق باحكام النجوم وطوالع السعد والنحس، اما الفلكي حسام الدين الذي جاء برفقة هولاكو فقد كان سني المذهب يعطف على الخليفة العباسي ويحرص ان يمنع هولاكو من غزو العراق، فراح يؤكد له ان هذه الحملة سوف تخلق خللا في نظام الكون فضلا عن انها سوف تكون وبالا على هولاكو نفسه.  ومما قاله :

 

ان كل ملك تجاسر على هيبة الخلافة الاسلامية، لم يبق له العرش ولا الحياة.  واذا ابى هولاكو ان يستمع لنصائحه فستظهر ست مصائب كبيرة: 1

  1. تموت الخيول ويمرض الجنود

  2. لن تطلع الشمس 

  3. لن ينزل المطر

  4. سيعاني العالم من زلزال

  5. لن ينبت الشجر في الارض

  6. يموت الخان الاعظم (اي هولاكو) في نفس العام.

 

بعد ذلك استدعى هولاكو نصير الدين الطوسي الشيعي لأستشارته، ولما كان هذا يكره الخليفة ويعمل على اسقاطه فقد نقض كل ما قاله حسام الدين وطمأن هولاكو بانه لا توجد موانع تحول دون اقدامه على الغزو، وضرب له باصحاب رسول الله مثلا والذين ماتوا دفاعا عن الاسلام ولم يصب الغزاة بأذي.

 

وعلى اثر ذلك اصدر هولاكو امره بان تتحرك جيوش المغول من اطراف بلاد الروم باتجاه العاصمة العراقية،  وعند وجوده في مدينة اربيل ارسل هولاكو جواسيسه الى بغداد لجمع المعلومات عن حالة الشعب المعاشية ومعنوياته القتالية ومحلات تواجد الجند ومخازن السلاح واوضاع الخليفة نفسه الذي كان غارقا في لياليه الملاح. في حين ساد الفزع والهلع اهالي بغداد بعد ان تشممّوا الاخبار عن قدوم جيش المغول والذي تهاوت امامه عروش كثيرة.

 

وفي اوائل شهر محرم عام 1257 تحرك هولاكو من مدينة همدان الايرانية على راس جيش جرار باتجاه نهر دجلة بالعراق عن طريق كرمنشاه، حتى اذا وصل نهر الدجيل، عسكر على ضفافه. وكان اثناء زحفه عبر المناطق الجبلية يغدق الاموال على القبائل المتاخمة، واستفاد من صاحب الموصل كثيرا بما حصل عليه من المال والرجال.

 

ولما انتهى حشد القوات المغولية واقام هولاكو معسكره في ظاهر بغداد من الشرق، وعندما حاول الجيش الصغير الذي اعده الخليفة بقيادة مجاهد الدين الدوندار ان يحول دون استقرار المغول في اماكنهم، كان نصيبه الهزيمة النكراء بعد ان قتل جميع افراد جيشه.

 

الى الحلقة الثانية والاخيرة