او قول الصادق من اهل البيت عليهم السلام
{العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا تزيده سرعة السير الا بعدا} لماذا؟ لان امتلاك البصيرة يشترط حضور العقل، فاذا غاب العقل غابت البصيرة، وان من يغيب العقل وهو
يقرا النص او يستمع الى متحدث او يطلع على فتوى او يطالع كتابا او تفسيرا، انما هو يغيب البصيرة، فالاخيرة ليست نتاج القراءة او المطالعة او الاستماع بلا عقل، ابدا.
لماذا سيطر الفكر التكفيري
اليوم على الساحة؟
ولماذا تسلط علينا فقهاء
البلاطات الحاكمة الذين يصدرون فتاواهم تحت طلب الحاكم الجائر؟
لماذا سيطرت على عقولنا ثقافة
المنامات والخرافات؟
لماذا قادنا علماء السوء من
جهلة وفساق وعملاء وانصاف العلماء؟
لماذا وظف المشبوهون دماءنا
وارواحنا ومعاناتنا وخيراتنا وبلداننا لتحقيق سياسات مشبوهة راحت تدمر البلدان وتقتل الانفس وتزهق الارواح؟
لماذا قادنا المتطرفون اقتياد
الشاة الى مسالخها؟
لماذا {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ
يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ
الْغَافِلُونَ}؟.
الجواب، وبكل بساطة، لاننا غيبنا العقل من
حياتنا اليومية عندما تصورنا ان الدين يعوض عنه او ان النص او الفقيه او الخطيب او المفتي او التاريخ او السلف يمكن ان يكون كل ذلك بديلا عنه، فسقطنا في الفتنة ونحن نظن اننا
خرجنا منها او ابتعدنا عنها، وشعارنا (اعصبها براس العالم واخرج منها سالما).
ان تغييب العقل ينتج التقليد الاعمى الذي بدوره
ينتج عبادة الشخصية، والتي تنتج بدورها عملية صناعة الطاغوت، والتي تفننا بها ايما فن، وتميزنا بها ايما تميز، والا لماذا لم تنتج شعوب الغرب طغاة مثلنا؟.
لقد غيبنا العقل حتى بتنا اضحوكة في هذا العالم،
غيبناه فقادتنا فتاوى مضحكة وخطب مهزلة وكلام مسخرة واجوبة على استفتاءات ما انزل الله بها من سلطان، غيبناه فتحولت حياتنا كلها الى خصومة في خصومة، نتخاصم مع ذباب وجوهنا اذا
لم نجد من نخاصمه، وصدق الامام جعفر بن محمد الصادق (ع) الذي يقول {اياكم والخصومة، فانها تشغل القلب، وتورث النفاق، ومن زرع العداوة حصد ما بذر، ومن لم يملك غضبه لم يملك عقله}
فانظروا كيف غلب غضبنا عقولنا؟ غيبناه فتحولنا الى جيش من الجهلة والاميين، اذا من اخلاقنا، على حد وصف الامام الصادق (ع) {من اخلاق الجاهل، الاجابة قبل ان يسمع، والمعارضة قبل
ان يفهم، والحكم بما لا يعلم} لماذا؟ لانه {لا عدو اضر من الجهل} على حد قوله (ع).
ان العقل هو حاضر ومستقبل، ليس فيه ماض، الامر
الذي يميزه عن الدين الذي هو ماض وحاضر ومستقبل، بمعنى آخر فان المرء يحتاج عقله لحاضر افضل ومستقبل احسن، كيف؟.
ان العقل يهدي للتي هي اقوم
بالتاكيد وبالشروط التالية وهي: ان لا يقدم عليه صاحبه شيئا، ليكون هو القائد ابدا، وان لا تقوده العاطفة او المصالح الضيقة، وان يتم تنشيطه باستمرار سواء بالنص او بعبر التاريخ
او بالفكر الجديد، من اجل ان لا يركن الى السبات او الخلود، وان يفكر بتجرد وموضوعية بلا انانية، وان يقدم الصالح العام على الصالح الخاص، حتى الصالح الخاص المشروع يلزم ان ياتي
في اطار الصالح العام، من اجل ان لا نفقد احد اثنين، الفرد والمجتمع، على حساب الاخر.
عندها يمكن ان يكون العقل من اجل حاضر افضل
ومستقبل احسن، وذلك من خلال:
الف: بناء الشخصية،
باء: بناء المجتمع،
جيم: صناعة مقومات الحماية سواء من الجهل او الاستبداد او فتاوى التكفير
والقتل او ما اشبه.
ان تحسين
الاداء في الحاضر، من اجل مستقبل افضل، يعتمد على العقل اولا واخيرا، من خلال:
اولا: توظيفه في عملية الاختيار، فالعقل هو الوحيد القادر على ان يمحص الامور ليختار الافضل والاحسن، فمثلا، في القران
الكريم كل شيئ وعلى كل الاصعدة، فمن الذي يختار من بين هذا الكم؟ انه العقل بكل تاكيد في اطار الحاجة الزمكانية، وكذلك، ففي التاريخ الكثير من العبر والتجارب والخبرات، فمن
الذي يختار من بين كل هذا الكم ما يفيده في حياته اليومية؟ بعيدا عن الترف الفكري؟ انه العقل بكل تاكيد.
لنضرب
بسيرة ائمة اهل البيت (ع) مثلا في ذلك، فكلنا نعرف بان سيرتهم متعددة الادوار الا ان الهدف واحد لا غير، فمن الذي يختار من بين هذه الادوار الدور المناسب لهذه المرحلة او
تلك؟ انه العقل بلا شك، فهو الذي يختار من بين عدة خيارات، فاذا غيبنا العقل تهنا في زحمة الخيارات ولم ننتفع بشيء.
ثانيا: تحديد الاولويات، الفكرية منها والعملية، فيقدم ويؤخر حسب حاجة الزمان والمكان، ولا يحقق المرء ذلك الا بالعقل،
فهو القادر على تحديدها، فيقدم امرا ويؤخر آخر، فاذا غاب العقل اختلطت الاولويات، وضاعت الاستراتيجيات وتشابكت علينا ملايين التكتيكات التي تضيع الجهود والزمن والثمار.
ثالثا: العقلانية، والتي تعني الاختيار بين واجبين مثلا، او بين مستحبين، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام {ليس
العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل من يعرف خير الشرين} فمثلا، لقد منح الله تعالى الحق لذوي القتيل بالقصاص، وفي
نفس الوقت شرع العفو، فمتى يختار ذوو القتيل القصاص ومتى يختارون العفو؟ ومن الذي يساعدهم على حسن الاختيار في اطار عقلانية موضوعية ليس فيها ضرر ولا ضرار؟ انه العقل فقط
الذي يساعدهم على اختيار عقلاني متوازن لا يضر بالفرد ولا يضر بالمجتمع، انه اختيار صعب وفي نفس الوقت فانه اختبار للعقلانية، فلا القصاص، وهو حلال، نافع دائما وفي كل
الظروف، ولا العفو، وهو جائز كذلك وممدوح، نافع ومفيد في كل الظروف.
وهكذا بالنسبة للكثير من القيم والمفاهيم،
كالعدل والاحسان، وهما خلقان من خلق الله تعالى، فمتى نختار هذا ومتى نختار ذاك؟ انه العقل الذي يساعدنا على حسن الاختيار في اطار العقلانية، فلولاه لاخترنا الخيار الصائب في
الوقت الخطا، او ربما جاز لنا ان نقول اننا سنختار الخيار الخاطئ في الوقت الخطا.
لقد قال احد الحكماء (حتى الشيطان يجد ضالته في
الكتاب المقدس) لان في النص تبيان لكل شيئ، فلكل امرئ حاجة فيه وحجة، هذا، اذا ما غاب العقل او غيب لسبب من الاسباب، لذلك نرى مثلا ان الخوارج قاتلوا الامام امير المؤمنين عليه
السلام بالقران، وان الامام قاتلهم بالقران كذلك، وعلى مر التاريخ فان الكل كفر الكل بالقران، وان كل (خلفاء المسلمين) حكموا بالشرعية بعد ان وجد لهم فقهاء البلاطات ما يبرر لهم
ذلك في القران، فالقاتل والمقتول والمنحرف واللص وشارب الخمر والمنتهك لاعراض الناس والذي يلعب بالقرود وترقص بين يديه الغواني والحريم والغلمان، هؤلاء كلهم (خلفاء) حكموا
بالشرعية بنص قرآني، لا يجوز لاحد ان ينتقدهم، بل انهم تحولوا اليوم لدى الكثير من الناس الى مصدر للشرعية، لاصدار الاحكام في القضايا السياسية والادارية وفي ممارسة الحكم
والسلطة.
لقد حدث هذا عندما غيبت الامة عقلها، فتحولت الى
امعة تسير خلف الحاكم وفقيهه بلا وعي وادراك وتمييز وارادة، وان ما يجري اليوم هو استنساخ للماضي وللاسف الشديد، فنرى مثلا ان فقيها معتوها مخرفا كشيخ موزه وفقيهها، يتلاعب
بمقدرات الامة بلا وازع من ضمير، من دون ان يساله احد او ينتقده او يستفسر منه او يحاسبه او ياخذ على يديه، يصدر فتاواه المتناقضة بالجملة بلا رقيب.
وبصراحة اقول: فلو بقي العقل مغيبا فترة اخرى من
الزمن، لتحولت بلداننا الى مسالخ للبشر، والى خربات ينعق فيها الغربان، اذ لا يبدو في الافق اي حل لحد الان، كما ان النفق مظلم كله، ليس فيه اي بصيص من نور في نهايته، وبالعقل
وحده يمكن ان نفيق من هذه الماساة.
وان العقل
الذي يمكنه ان ينقذنا هو العقل الذي يتميز بما يلي:
اولا: لا يتوقف عند التاريخ ولا يقدس الماضي ولا يستنسخ تفسير السلف، لا لنص ولا لحدث.
ثانيا: يستفيد من التاريخ كدروس وعبر فقط، فلا يتعامل معه كشرعة للحاضر
الا بعد ان يغربله بعقله، فلا يستنسخه استنساخا.
ثالثا: يطور فهمه للماضي بما يخدم حاضره ومستقبله، فلا يأسر نفسه في سجن الماضي او يقولبها بقالبه.
رابعا: لا يتعصب ولا يتطرف، بل يتميز بالتوازن والعقلانية والوسطية.
خامسا: ان يلغي من قاموسه ثقافة الانتماء الى السلف او ما يسمى بـ (السلفية)
فـ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} اما ان نرد على كل من سألنا عن علة هذا الاختيار
او ذاك بالقول {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} و {إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فان الحياة لا
تستقيم بمثل هذه العقلية الخرافية المتحجرة والظلامية التي تنتمي الى الماضي ابدا.
ليس كل ما شهده الماضي يمكن ان يكون مفيدا
لحاضرنا، وليس كل ما كتبه السلف او عمل به او فهمه من كتاب الله تعالى او من سيرة الرسول الكريم (ص) يمكن ان ننتفع به اليوم، انها قراءات قديمة يمكن تحديثها وتطويرها بما ينسجم
والواقع، فهي ليست قوالب ثابتة وجامدة ابدا.
علينا ان نهتم بما يشغلنا اليوم وبهمومنا وما
نحتاجه، وليكن التاريخ معينا لنا على ذلك لا بديلا عنه.
ان تحول التاريخ الى سقف في الوعي والفهم
والاستنباط يضر بنا اكثر مما ينفعنا، لانه سيحجر عقولنا.
ان سر عظمة الاسلام هو انه يعتمد العقل، فاذا
غاب العقل غاب الاسلام، وكذلك القران الكريم، فاذا غاب العقل غاب الاخير، وهذا يتطلب منا ان نتعامل مع السلف كبشر اصابوا واخطاوا، وانهم اخذوا من الدين والقرآن ما نفعهم، في ظل
حاجتهم الزمكانية، وان علينا ان ناخذ منهما ما ينفعنا كذلك في ظل الزمكانية التي يحترمها الاسلام ايما احترام، والا لما كنا مسلمين اليوم، لانه لن يكون دينا خاتما وخالدا من دون
ذلك.