العبرة من ثورة الزنج في العراق
بقلم د. رضا العطار
من كتاب
شخصيات غير قلقة في الاسلام لهادي العلوي
alattataronline.com
الشخص الذي عُرف
به علي بن محمد، (قائد
حركة الزنج في جنوب العراق)،
هو نفسه غير زنجي وانما عربي ينتسب الى العلويين - - وهناك دلائل تثبت دعواه، نعرضها على الوجه التالي :
قدم صاحب الزنج
نفسه على انه : علي بن محمد بن احمد بن عيسى بن زيد الشهيد – وفي سلسلة هذا النسب حالتان من الاختفاء
الشديد تضم احمد بن عيسى ووالده عيسى بن زيد – كان عيسى قد اختفى بعد هزيمة ابراهيم بن عبد الله بن
الحسن الثائر على المنصور العباسي في جنوب العراق – وكان من قادة هذه الحركة، لكنه استطاع الافلات من
ميدان المعركة بعد مقتل وتشتت جيشه - - وبقى مختفيا حتى خلافة المهدي بن المنصور حيث وصل الخبر بوفاته
دون تعيين المكان الذي توفي فيه. وفي (الحدائق الوردية) وهو من مصادر الزيديين انه مات في الهند - - -
ولا استبعد ذلك فقد سبقه الى الهند علوي آخر هو عبد الله النفس الزكية الذي هرب بعد مقتل والده في
معركة ضد المنصور جرت في المدينة – وانقطعت اخباره بعد ذلك.
كان عيسى قد تزوج في مختفاه
وكتم اسمه الاصلي ونسبه عن زوجته التي انجبت له ولدا سماه احمد، ويبدو انه اخبره بأصله وطلب منه كتمانه عن
امه – فلما مات عيسى ظهر احمد والتحق باسرته في بغداد – وبعد ان شب استأنف سيرة والده فحبسه هارون الرشيد
ثم افلت من السجن لتدبير من بعض اتباعه واختفة في قرية بايران ثم انتقل منها الى البصرة – وفي مختفاه ولد
له ولدان هما محمد وعلي وينتسب صاحب الزنج الى محمد الذي تقول مصادر النسب ام له ولدا اسمه علي
وفي (اكمال الدين) للشيخ الصدوق القمي من مؤلفي القرن الرابع الهجري يذكر عن حكاية المعراج ان الله حدث
محمدا بما سيكون بعده ومنها خراب البصرة على يد رجل من ذريتك يتبعه الزنوج - - - والجدير بالذكر ان
العسكري، الامام الحادي عشر كان معاصرا لثورة صاحب الزنج ويعيش في سامراء في زمن العباسيين، فيحتمل انه لم
يعلق عليه للتقية.
النسابة الذين انكروا علوية صاحب الزنج قالوا انه من بني عبد القيس وان اسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم
وامه من بني اسد من اهل الكوفة – وكان احد الخارجين مع زيد بن علي على هشام بن عبد الملك فلما قتل زيد هرب
الى الري (طهران الحالية) وفيها ولد صاحب الزنج - - ويقول النسابة ان ابا ابيه المسمى عبد الرحيم ولد في
الطالقان ثم جاء العراق فاشترى جارية سندية فاولدها محمدا اباه - - ولا ندري ان كان لهذا الخبر علاقة
انعكاسية بتاريخ زيد بن علي الذي ولد لأم سندية.
العبرة من ثورة الزنج في العراق ؟
بعد انقضاء الف سنة على ثورة العبيد بزعامة سباتاكوس في الدولة الرومانية قبل الميلاد، والتي بائت بالفشل
ظهرت ثورة العبيد، الزنوج في مدينة البصرة في العراق بزعامة علي بن احمد وبقيت هذه الثورة تحارب الخليفة
العباسي خمس عشرة سنة، كان الانتصار في بعض الاحيان الى جانب قائدهم علي بن احمد. لكن الغلبة في النهاية
كانت للخليفة.
وقد اتخذت هذه الثورة لونا دينيا. لأن الزعيم كان من العلويين وكان العلويون يتزوجون من الاماء الزنجيات،
ولعل ذلك لفقرهم، لأن الامة البيضاء كانت اغلى ثمنا من الامة السوداء ولذلك اصبحت وجوههم تنزع الى السواد.
ومن هنا وجد علي بن احمد رابطة عنصرية تربطه بالزنوج.
ولا بد انه كانت هناك اسباب اقتصادية خلف هذه الحركة ولكننا نجهلها، علما ان كتب التاريخ تذكر سيرته لكنها
لا تذكر شيئا عن خطبه او مناقشاته او المؤلفات التي كتبت في الدفاع عن مذهبه اي تحير الزنوج. وذلك بالطبع
لانها وجدت فيها جميعها زندقة تجافي الدين الذي يقر بالرق
ولكن يجب ألا ننسى ان علي بن احمد لجأ الى الدين كي يبعث هذه الحركة وذلك لان المجتمع الاسلامي كان مجتمعا
دينيا يراسه وجل دين وهو الخليفة فالانتقاد عليه يحتاج ايضا الى التبرير الديني فهو لذلك رفع راية علي بن
ابي طالب اي انه كفء لان يقف ضد الخليفة وان يبرر لنفسه السيادة للمجتمع الاسلامي
ونقرأ عنه في تاريخ الطبري انه جمع الزنوج ثم خطب فيهم
ووعدهم ان يقودهم ويراسهم ويملكهم الاموال اي انه وعدهم ان يكونوا رؤساء ومالكين ومعنى هذا الغاء الرق ...
فكيف استطاع ان يصالح بين هذا القول وبين الرق الذي اجازه الدين ؟
هذا هو ما يصمت عنه الطبري لانه يجد انه لو ذكر الاسباب التي برّر بها علي بن احمد هذا القول لتنورط في
تدوين كلمات كافرة هي اشبه بالدعاية ضد الدين.
ثم يروي لنا الطبري ان علي بن احمد جمع الموالي، اي السادة الذين كانوا يملكون العبيد وقال لهم: ( لقد
اردت ضرب اعناقكم لما كنتم تأتون الى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وفعلتم بهم ما حرم الله
عليكم ان تفعلوا، وجعلتم عليهم ما لا يطيقون. فكلمني اصحابي بخصوص شأنكم فقررت اطلاقكم، وهنا امر بجلد كل
واحد منهم 500 جلدة.
وهذا هو الخطأ ! كان عليه اما ان يقتلهم او ان يعفو عنهم. حتى يستبقي ولاءهم او على حيادهم على اقل تقدير.
لكنه خلى عنهم بعد ان انزل بهم الهوان واحفظهم عليه.
ومما يسترعي النظر ان المؤرخين يبرون سير الاحداث دون ان يذكروا فيها كلمة
(ثورة) اذ انهم
كانوا يسمونها (فتنة) ولم يبدوا في سردهم اي احساس او تضامن او عطف على العبيد الذين شاء قائدهم ان يجعلهم
من البشر.
اننا نجد في خلال المعارك التي
نشبت بين الخليفة العباسي وبين الثائرين من الزنوج ما يشبه الحرب العنصرية. فإن الثائرين زنوج سود
والخليفة يرسل اليهم جيشا يقوده قائد تركي ابيض ليس عربيا يحارب عربيا اسود ينتمي الى اسرة علي بن ابي
طالب.
ويعرض القائد التركي على زعيم الثائرين خمسة دنانير عن كل عبد يسلمه الى سيده. ولكن علي بن احمد يرفض هذا
العرض. ألم يكتب على رايته (ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة؟)
ان
الاخلاق التي كانت سائدة في ذلك الزمان هي اخلاق السادة الذين كانوا يعيشون في مجتمع اقتنائي، يقتني
افراده المسكن والمزرعة والعبد والسلعة. فكان رجل العامة يأخذ بهذه القيم وان لم يطمع في الحصول على
هذه المقتنيات. ولذلك كان هو نفسه ايضا يبرر الرق. بل ان وجود الرق كان يكسبه في دنياه الفقيرة شيئا من
الامتياز. أليس هو حرا ؟
وفشلت ثورة الزنج. ولكن لا بد
ان كثيرا من العبيد الذين سمعوا بها بعد ذلك كانوا يتنهدون عندما كانوا يذكرونها.
مهما يكن فصاحب الزنج عربي لا
زنجي – وقيادته لحركة الزنج تندرج في ظاهرة ملحوظة في تاريخ الحركات الاجتماعية وهي ان المسحوقين غالبا ما
يقود ثوراتهم وانتفاضاتهم اشخاص من الخارج – ويرجع سبب ذلك الى عدم توفر الفرص لظهور مثل هذه القيادات بين
المضطهدين الفقراء وتوفرها للفئات المالكة للثروة والمتصدرة في المجتمع والتي تنعم بامكانيات تأهيل وتوعية
تساعد على تشكيل الكفاءات في مناحي الحياة المختلفة.
ومع الاختلاف في نسب صاحب الزنج
فهو ينتمي في كل الاحوال الى اسرة عريقة في السياسة والمعارضة وقد نظر اليه بعض المؤرخين من قدماء
ومعاصرين كمغامر طموح – ولعل ينطوي على شئ من ذلك - - لكن اختياره لهذه المهمة الخطرة لا يدل على تفكير
راسخ بالسلطة – ويستفاد من الروايات التي تحدثت عن اتصال القرامطة به ان امورا مشتركة كانت تجمع بينهم ولو
انه لم يتفق معهم على عمل مشترك لانه لم يكن يحمل افكارا قرمطية – وما يمكن ان تشخصه فيه هو حس المعارضة
موروث مع الكراهية للعباسيين ومفاسدهم – ونفور المسحوقين من الظلم لا سيما ظلم الضعفاء – وهي صفة تجتمع
لدى الكثير من عناصر المعارضة في الاسلام. – ولعله فكر طويلا في معاناة الزنوج في جنوب العراق كما كان
يحدث انظرائه واسلافه من المعارضين الذين كانوا يثورون ضد مظاهر الظلم الاجتماعي الصارخ المقيت. ووضع خطة
لتحريرهم.
اما
اصحابه الزنج، فهم افارقة كانوا يخطفون من بلادهم بحملات عسكرية وحشية منتظمة كالتي واصلها في نطاق
اوسع رأسماليو اوربا وامريكا حتى القرن التاسع عشر – ويباعون بالجملة لمن يستخدمهم في الانتاج – وكان
التوسع في النشاط الاقتصادي الاسلامي قد اوجد حوافزا انتاجية عديدة لدى المغامرين من التجار والملاكين
كانت تدفع بهم الى ارتياد افاق جديدة لتضخم مواردهم - - ومن هذه الافاق كان الاتجاه الى توسيع الرقعة
الزراعية في جنوب العراق باستصلاح المزيد من القيعان – والقيعان هنا معرضة دائما للسبخ بسبب النسبة
العالية من الاملاح الني يكون دجلة والفرات قد جرفاها معهما الى تلك البقاع القريبة من المصب – فضلا عن
وجود الاهوار – وهي مياه غير عميقة تغطي مساحات كبيرة من جنوب العراق.
وقد جيئ باعداد هائلة من الزنوج
المخطوفين وارغموا على عملهم مثل نظائرها في اوربا وامريكا من حيث المعاملة الهمجية والحرمان من مقومات
العيش البسيط.
ليس لدينا وصف شاف للطريقة التي توصل بها علي بن محمد الى تنظيم الزنوج للقيام بالثورة وكان هذا يقتضيه
جهودا خارقة بسبب حضور السلطة بينهم وكون الاغلبية من مستصمريهم هو من افرادها فضلا عن تدني وعي الزنوج
وغربتهم عن المحيط – وكان معظمهم لا يحسنون العربية – وما وصلنا اليه من تفاصيل يبدأ من ظهوره واحتشاد
الزنوج من حوله – وكان قد استصبأ عددا من البارزين بينهم واوكل اليهم الاتصال بجماعاتهم والسعي لكسبهم له
– وتم التحشيد في وقت غير طويل – مما يدل على ان هذه الخطوة جاءت بعد زمن من النشاط السري في صفوفهم
وانطلقت الحركة على النسق التالي :
اعد قماش من الحرير كتبت عليه الآية الشريفة من سورة توبة هذا نصها
( ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم بان لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في
التوراة والانجيل والقرآن ومن اوفى بعهده من الله فاستبشروا بسعيكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم )
- - كما كتب عليه اسمه واسم ابيه – وعلق االلواء على راس عمود وخرج به عند السحر – وصار كلما مر بجماعة من
العبيد امر باعتقال وكيلهم وضمهم اليه واستمرت مسيرته يوما كاملا ضم في اثنائها اعداد كبيرة من العبيد
وفي الليل قام بهم خطيبا فابلغهم انه جاء لكي يخلصهم مما هم فيه
من حالة مزرية ويجعلهم رؤساء ويملكهم الاموال وحلف ان لا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئا من الاحسان الا
واتى اليهم – ثم امر باحضار وكلائهم المعتقلين فخطب فيهم ومما قاله :
وقد اردت ضرب اعناقكم لما كنت تأتون لهؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وقهرتموهم وفعلتم بهم ما حرم الله –
وجعلتم عليهم ما لا يطيقون - - فكلمني اصحابي فيكم فقررت اطلاق سراحكم - - ويلاحظ هنا ان الوكلاء تكلموا
معه باللغة الطبقية التي هي لغة اصله حتى يستدرجوه.
لقد توجه قائد الثورة في اليوم الثاني بجماعته الى البصرة ونزل في ضاحية منها منتظرا اكمال تدفق الزنوج
عليه وبقى هناك حتى حل عيد الفطر – وكان قد خرج قي السادس عشر من رمضان ونادى باجتماع لصلاة العيد في مسجد
الضاحية وصلى
بهم ثم خطب خطبة العيد فذكرهم فيها بما كانوا عليه من سوء الحال وان الله قد استنقذهم به من ذلك. - - -
وفي خطوة لاحقة حاول تحييد اهل البصرة فارسل اليهم احد اصحابه الستة – وهم اركان قيادته – واوصاه ان
يعظمهم ويخبرهم ما الذي دعاه الى الخروج – فذهب وادى وصيته. فقتله اهل البصرة.
كانت البصرة مدينة تجار وملاكين وقد تحولت الى مركز تتحرك منه قوات العباسيين للهجوم على الزنج.
ولكنهم دحروا جميع الهجمات التي وجهت من تلك الجهة. وفي وقت لاحق لم يجد صاحبهم مفرا من اقتحام البصرة
واباحتها لاتباعه ثلاثة ايام – فقتلوا اعدادا كبيرة من اهلها وخربوا واحرقوا اكثر مبانيها - - والى هذا
الحدث تشير الكناية الشائعة حتى اليوم (بعد خراب البصرة)
– وكان اصحابه قد طلبوا منه الامر بدخولها بعد دحر الهجوم الاول. فأبى وقال : الرأي الان ان تدعو حربهم
حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم – وكانت هذه سياسته مع القرى التي حاربتهم واصبحت البصرة بعد نخريبها بحكم
الساقطة عسكريا.
تمكن الزنج من اجتيازها للتمدد في مساحات اخرى فدخلوا مدينة الابلة الكائنة في جنوب البصرة – وكانت حسب
تقدير المؤرخ العراقي مصطفى جواد في موقع بلدة
(ابو الخصيب) الحالية ثم عبروا الى الاهواز فصارت من املاكهم – بينما استسلمت لهم عبادان وانضم اليهم من
فيها من العبيد. - - ومن جهة الشمال وصل الثوار الى حدود بلدة النعمانية حوالي تسعين كيلو مترا من بغداد.
عاصمة الدولة العباسية.
وهكذا
انشأ الزنج امبراطورية صغيرة على حدود امبراطورية العباسيين المتفككة – وشيد علي بن محمد عاصمة سماها
(المختارة) - - يقول ابن ابي الحديد : (انها كانت مدينة عظيمة تضاهي بغداد وسامراء – وقد اجتمع اليه
فيها من الناس ملا ينتهي العدد.
عاشت دولة الزنج مع ثورتهم قرابة خمس عشرة سنة وشهدت حالة سلام نسبية في السنين الاولى - - وليس لدينا
تفاصيل عن نظام الدولة الاجتماعي والاقتصادي – غاية ما نعرفه ان العبيد السود ومن التحق بهم من فقراء
العرب وغيرهم صاروا هم سادتها والذين نعموا بخيراتها - - وقد وفد على المختارة، العاصمة عدد من
العلويين الناقمين على بني العباس وعاشوا هناك مقربين الى صاحبها بحكم رابطة النسب المعلنة رسميا.
ومن اللافت للنظر ان الرق لم
يبلغ في هذه الدولة وانما تغيرت علاقة السادة لصالح العبيد الذين اخذوا بدورهم يستعبدون بعض سادتهم
القدماء – كما استعبدوا نساءهم التي كانت تدخل في ملكهم بعد الاسر - - وكان من بينهن نساء عباسيات –
وتحكمت في هذا الوضع حقائق رد الفعل ونزعة التشفي من الاسياد السابقين – وهي مشاعر كانت تسير علي بن محمد
نفسه. مما يفسر موافقته على جعل النساء العباسيات جواري للعبيد السود – ويقال ان امرأة هاشمية شكت اليه
تعسف مالكها فلم يشكيها – وقال لها : اطيعي مولاك ! - - ويبدو ان حالات الرق افتصرت على هذه الفئات –
وبالطبع فلم يبق هناك عبيد سود – ويمكن ان نستبعد وجود عبيد من غيرهم بالشراء.
وجرى الزنج وهم غير مسلمين على عادتهم في شرب الخمر ولم ينكره صاحبه عليهم – ثم حدث ان ابلغه احد قواده
الستة ان اصحابه شغلوا بخمور وجدوها في القادسية فتوجه اليهم وابلغهم ان ذلك لا يجوز لهم. وقال لهم انكم
تلاقون جيوشا تقاتلونهم فدعوا شرب الخمر. فحرمه عليهم من ذلك الوقت.
كان الخليفة في بغداد هو المعتمد على الله والسلطة الفعلية بيد
العسكريين الاتراك – ولمواجهة صاحب الزنج واتباعه كُلف اخو الخليفة ابو احمد الملقب بالموفق بقيادة
الحملات التي ستنظم لهذا الغرض – ووضع تحت تصرفه جيش من 52 الف مقاتل – وتالفت القوات الحكومية من برية
ونهرية – وكان العباسيون قد انشؤوا في وقت مبكر اساطيلا في دجلة والفرات للحرب والتجارة – وكانت سفنهم تصل
من بغداد الى شط العرب وتنتقل بين النهرين بالانهار التي كانت تربط بينها. واسس الموفق مدينة على مشارف
دولة الزنج سماها الموفقية اراد ان ينافس بها المختارة – ومنها كان يوجه الحرب ضدهم – وكان وقوع الثورة
قرب مركز الخلافة العباسية يضاعف من خطرها فضلا عن شمولها واتساع رقعتها اذ انها لم تقتصر على الزنوج
وانما انخرط فيها عرب فقراء من تلك النواحي – كانوا قد اعتادوا على الانضمام الى اي ثائر على الدولة
الظالمة طمعا في تحسين احوالهم المعاشية – وبعض الفلاحين من بقايا النبط والزط وهم ( جماعات هندية استوطنت
في جنوب العراق ايام العباسيين ) وقد دعا ذلك الى المزيد من الاستنفار من جانب العباسيين.
وعندما بدأت الحرب بين جيش العباسيين وصاحب الزنج، اتسمت الفعاليات القتالية بالقسوة المتناهية جرت في
الاهوار التي وجدها الزنج البيئة الطبيعية المناسبة لحرب العصابات. وقد استخدموا لهذا الغرض قواربا حربية
سريعة كانوا يغيرون بها على مواقع الجيش العباسي المتمركزة هناك ثم ينسحبون الى مواقعهم – وكان على الثوار
ان يتراجعوا في بداية الهجوم العباسي فيخلوا مواقعهم المتقدمة باتجاه بغداد – ليتحصنوا بالاهوار التي تزيد
مسافة اقربها لبغداد عن مئتي كيلو متر – وقد صاروا الان يواجهون جيشا نظاميا جيد التجهيز متفوقا في العدد
ويتألف في معظمه من الاتراك الذين تمرسوا في فنون الحرب حتى طغت عندهم
لم يكن
للزنوج المسخرين في كسح السباخ سوابق صراع تجعلهم مؤهلين لمجابهة مثل هذا الجيش وانما قاتلوا بروح
الصراع الطبقي الذي اذكاه فيهم قائدهم. وقد ساعدتهم خبرتهم بمسالك الاهوار والعيش المديد في تلك
المجاهل على حسن استخدامها في استراتيجيتهم الدفاعية مما اطال امد الهجوم العباسي واخره عن انجاز مهمته
ثلاث سنوات وفي اثناء تلك المدة كان الجيش في تقدمه البطيء يقضم اطراف دولة الزنج خارج محيط الاهوار
وقد انسحبوا من عبادان والاهواز التي لم يكن الدفاع عنها ميسورا بسبب انكشافها للجحافل النظامية التي
كان بمقدورها ان تنقض عليها من اكثر من جهة - - ثم اخذت هذه القوات تتوغل باصنافها البرية والنهرية في
عمق الاهوار مستفيدة من قدرات اسطولها النهري وتفوقها في العدد.
وبعد سنتين تمكنت من محاصرة
المختارة حيث بدأت سلسلة من اشرس معارك الثورة دامت حوالي السنة وكانت آخرها واشهرها معركة الدفاع عن
المسجد الجامع.
ويحيل الطبري سر استماتتهم في هذه المعركة الى غيبيات علي بن محمد الذي (كان يحضهم عليه ويوهمهم وجوب
نصرته وتعظيمه فيصدقونه- - - ) والواقع انه كان معقلهم الاخير اذ هو المقر الفعلي لقيادة ثورتهم. والمعروف
ان المعارك الحاسمة الاخيرة تقع حول هذه المواقع وتنزج فيها خلاصة القوة الباقية للمدافعين - - وقد اشترك
في المعركة علي بن محمد نفسه وقاتل حتى قتل لئلا يمكن العباسيين من استلامه حيا - - وبسقوط هذا الموقع
انتهت ثورة الزنج بعد اربع عشرة سنة واربعة اشهر من قيامها في اهوار العراق - - - انما قلت (انتهت) ولم
اقل (سقطت) لانها في الواقع لم تسقط بل سقطت دولتها – اما اهدافها كثورة فقد تحققت – فالزنوج الذين كانوا
يعملون في كسح السباخ لم يعودوا الى ذلك لعمل وتوقف هذا النمط من الانتاج ذي الطابع العبودي في جنوب
العراق.
ومع ان
بعض الزنوج اعيدوا الى الرق كافراد فلم يبق هناك استعباد جماعي - - ويستدل الطبري ان الخوف بقى مستوليا
على العباسيين واركان دولتهم من احتمال انفجار الثورة مرة اخرى - - وقد دفع ذلك الى مداراة العبيد
الثائرين واستمالتهم بالوعود مما ابقاهم بالتالي في مركز ضغط يمنع من اعادتهم الى نفس وضعهم السابق - -
ومن اللافت للنظر عدم التنكيل بقادتهم الذين اسروا بعد انتهاء الحرب – وكان بينهم احد ابناء علي بن
محمد الذي عرف بلقبه الزنجي (انكلاي) وتركوا في السجن ببغداد - - ثم حدث بعد سنتين ان تحركت فلول الزنج
في واسط ونادت باسم انكلاي – فامر الموفق باخراجهم من السجن وقتلهم.
وقف المجتمع الاسلامي باسره ضد
صاحب الزنج فسحب منه هويته، كما منحه لقفب (الخبيث) الذي صار علما عليه في مصادر التاريخ بدءا من الطبري –
ومن اقر منهم بصحة نسبه جعله كما راينا كابن نوح الذي نفاه الله عنه وربما شذ عن ذلك النسابة الذين صححوا
نسبه حسب (عمدة الطالب) – ولم يدافع عن الثورة احد من الفرق ولا الشخصيات الثقافية او الاجتماعية – وقد
اشار المؤرخ ماسينيوس (مادة الزنج من دائرة المعارف الاسلامية) الى ان الزنوج المستعبدين تأثروا
بالمتعبدين المسلمين الذين كانوا يعيشون في صوامع عبادان المجاورة بما يكونون قد ادركوه من حقوق لهم في
نظام الرق – وانه ليبدو لي ان حكم الاباق كان مشتركا بين الجميع كمبدأ شرعي لا يجوز التخلي عنه - - وتتجلى
هنا وقفة طبقة الاحرار تجاه طبقة العبيد تنفصل عنها في كل شئ
كان المجتمع الاسلامي يتألف من جنسين
اسمر و ابيض يشملان العربي – السامي بوجه عام – والفارسي والكردي والتركي وهي الشعوب الاسلامية الاراس –
ولم يكن بين اللونين والعرق الزنجي ما يجمعهما وقد نظرت ثقافة هذه الاعراق بازدراء الى الزنوج. ولم تفعل
الاممية الاسلامية فعلها المؤثر في هذه العلاقة رغم التأكيد المبدئي المقترن ايضا باحكام شرعية مناسبة –
لان الاسلام توقف عند الحدود الطبقية و الدينية للعلاقة بين الزنجي المسلم الحر يتمتع بنفس حقوق المسلم
الاخر – لكن الزنجي المسلم العبد يقع في مرتبة ادنى محكومة بقانون الاباق. - - اما الزنجي غير المسلم فهو
كأي كافر آخر فاقد لاي شئ عدا جسده المحصن ضد القتل والاغتصاب الجسدي - - وقد عكس المتنبي في هجائياته
لكافور الذي جمع بين صفتي العبد والاسود نهجا كان سائدا بالخصوص في القطاع الادبي من الثقافة الاسلامية
حيث واصل الادباء المسلمون تقاليد مجتمعاتهم تقاليد مجتمعاتهم العرقية بعيدا عن خط الفلاسفة ورجال الدين
في وقت واحد – وكان هذا النهج يعم المعرضة والسلطة.
تكشف قصيدة ابن الرومي في رثاء البصرة عن نقطة لقاء فاقعة بين الطرفين - - وابن الرومي مؤييد للعلويين
مناوئ للعباسيين – ولم يكن يحب تلك الدولة التي عاش في ظلها ولم يجد في عصيان الزنج ما يلأم جروحه بل
بالعكس – فقد نكأها بما ايقظه في روحه من عرقية بيضاء يعززها نسب يوناني صريح ومن حس السيادة لدى مالك
العبيد – يبكي على جمال البصرة الذي دنسه العبيد السود. - - وكان الطبري مقاطعا السلطة على طريقة فقهاء
الدين في القرن الاول وكان يتمتع بقسط من حرية الرأي والاجتهاد مع الاتجاه الى مطالعة كتب الفلسفة في
السر. مقابل معالجته لثورة الزنج عن طريق دعم حرب العباسيين ضدهم
وجاء في
كتابات ماسينيوس ان الشيعة كانوا يحتفلون بيوم صاحب الزنج في السادس والعشرين من رمضان - - - وفي الوقت
الحاضر اعيد الاعتبار لثورة الزنج من جانب الفكر الليبرالي والماركسي – وقد نوه عنها طه حسين ولفت
الانظار الى موقعها الهام في تراثنا – وفي اواسط الخمسينيات ظهر كتاب مكرس لتاريخها كتبه المؤرخ
العراقي د. فيصل السامر بعنوان (ثقورة الزنج) والمؤلف ليبرالي متأثر بالماركسية – وقد طبع الكتاب اكثر
من مرة - - وفي اواخر الستينيات صدر كتاب عنوانه (ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد) لأحمد علبي وهو كاتب
يساري من لبنان – جذبته الحادثة فانبرى للكشف عنها بتعاطف حميم. وهاجمها القوميون العرب بعصبية شديدة
لكن المنصفون منهم، وهم قلة، دافعوا عن ثورة الزنج بعد ان اطلعوا على دوافعها الحقيقية، كان منهم
العراقي فاضل الانصاري، ووعبد الكريم الناعم من سورية.