اسمه همام بن غالب التميمي،
والفرزدق لقب عُرف به لان وجهه كان مجدورا وكأنه العجين المتخمر، يدعى بالفارسية (برازده) وعربت في صيغة
فرزدق. نشأ الفرزدق مع بداية الدولة الاموية، وكان ابوه من غالب من أجواد العرب ومن طبقة حاتم الطائي، نشأ
في البصرة ثم انتقل بين الكوفة والشام وظهر كشاعر فذ.
وفي بداية حكم يزيد، لقي الحسين بن على بن ابي طالب، وكان في طريقه الى العراق، فسأله عن الوضع في الكوفة،
وكان الفرزدق
قادما منها متوجها الى الشام، فقال الفرزدق
للامام عبارته المشهورة (قلوب الناس معك وسيوفهم عليك). وقبل ان يبتعد الحسين قال رجل للفرزدق يغريه
للانضمام الى الحسين، فقال الفرزدق: فكرت في الامر لكنني تذكرت ان الانبياء يقتلون. وواصل سيره.
ليس لدينا معلومات عن دراسة الفرزدق وثقافته وعلى
الاكثر لم يتجاوز القرآن والشعر واخبار الجاهلية وصدر الاسلام - - - لكن الفرزدق من تميم، القبيلة الكبرى
ذات النزوع الاستقلالي، المتماهي في نزعته التمردية، كانت اسرته محمّلة بالكثير من مآثر القبيلة التي اظهر
الفرزدق وعيه الجيد بها، فكانت موضع فخره في قصائد مجلجلة مشفوعا بالتعصب لنهجها في الحياة.
جيء مرة بأسرى بيزنطينيين في
خلافة سليمان بن عبد الملك، وكان كل من الفرزدق وجرير حاضرا، فسلّم سليمان كل واحد منهما اسيرا ليتولى
قتله، واهوى جرير بسيفه على اسيره فقطعه بضربة واحدة، اما الفرزدق فضربه ضربة خفيفة لم تؤثر فيه، لئلا
يتهم بالعجز، وعندما شمت به جرير، ردّه الفرزدق بهذا الكلام : نحن
لا نقتل الاسرى، ولكن نفكّهم
وتأثر سليمان فأطلق الاسير.
وخرج الفرزدق متأبطا اسيره الذي نجا على يديه. محاكيا تقاليد قبيلته التي تتعفف عن قتل الاسرى - - كان
الفرزدق الى جانب جرير اكبر شعراء الاوان الاموي، اوقع عبد الملك بين القطبين، فهاجت النقائض بينهما الا
انها لم تتجاوز شتائم عادية لم تبلغ صورة مبدعة كالتي عرفها الشعر العباسي بدأ من بشار بن برد.
وقد امتاز الفرزدق بالجزالة وجرير بالرقة. الفرزدق
ينحت في الصخر وجرير يغرف من بحر، فشعر الفرزدق بكثافته يهز النفس ويثير فيها التوتر، وشعر جرير يترقرق
بغزارة جبل الريان المترع بالطيب والندى.
يحكى ان رجلا سمع بيتا لجرير
فألقى نفسه في البئر من شدة الاعجاب - - وهناك تباين حاد بين الشخصيتين: جرير شاعر سلطة ملتزم بها على صفة
التابع. وامتاز جرير بالعفة في قضايا النساء، وشعره الغزلي يقترب من الغزل العذري. وكان متدينا كثير
التحرج في تصرفاته.
بينما الفرزدق كان مشبعا بروح
التمرد والمعارضة التميمية، ومدائحه للخلفاء والولاة محكومة بالتكسب، وكان يشترط إنشاد مدائحه جالسا، ولما
اراد الخليفة الزامه بالانشاد قائما، ثارت قبيلة تميم، فتراجع الخليفة. ولم يُعرف بالتدين. فسلك في قضايا
الحب درب المجون والتهتك، كما عرف بحبه للخمرة، وقد غلبت عليه الخفة وروح الفكاهة بمطالب الوقار والرزانة
- - لقد اظهر الفرزدق تحسسا شديدا ضد الولاة القساة الذين اتصفوا بالبطش والدموية - - فلما مات زياد بن
ابيه ورثاه شاعره مسكين الدرامي، امتعض الفرزدق، فهجاه وهجا زياد بأبيات منها:
به لا بظبي بالصريمة اعفرا |
|
اقول له لما
اتاني نعيه |
والمعروف ان زياد مات بمرض الأكلة اي الجذام ذو الالام المبرحة، وهو الذي احدث فاجعة عاشوراء بحق احفاد
رسول الله، وما اصاب زياد بعدئذ، اعتبرها الفرزدق قضاء عادلا ينزل على جلاد شرس وليس على ظبي بريء، فموقفه
هذا تعبير عن شفافية انسانيته. فغضب الفرزرد من رثاء زياد يتفسر بكونه الحاكم الذي وضع العرب امام امتحان
الاستبداد بنهجه الدموي القاطع مع مبادئ اللقاحية العربية منذ زمن الجاهلية ونظامها القبلي النافر من
السلطات الغاشمة.
يتصنف الفرزدق كمعارض للامويين بوعيه لا بمسلكه
السياسي، فهو لم ينتظم في سلك فرقة معارضة كما لم يكن له نشاط منظم على ساحة المعامع السياسية الكبرى في
زمانه، وبقى على علاقة جيدة مع ممدوحيه فلم يرتابوا في ولائه. فمعارضته ونزوعه نحو التمرد لم تصل به الى
حد الصراع التناحري. وقد عبر عن معارضته لسياسة الامويين الطائشة حينما انفق والي العراق خالد القسري
اموالا طائلة على قناة عرفت في الجغرافية الاسلامية باسم النهر المبارك. فقال الفرزدق :
على نهرك المشؤوم غير المبارك |
|
وانفقت مال الله في غير حلّه |
ومنعا لحق المرملات الضرائك |
|
أإنفاق مال الله في غير كنهه |
(ألضرائك،
الشديدات الحاجة.)
* شخصيات غير قلقة في الاسلام، للكاتب المتميز هادي العلوي مع
التصرف
رأى الفرزدق في الخليفة عمر بن عبد العزيز من طراز شغلته هموم الناس ولم ينشغل بهموم نفسه، فكان : قوام
الحق والدين، وكان الميزان الاوفى والادق للعدالة، وهو في ذلك منسجم مع سياسته فلم يأخذ لنفسه شيئا.
لم يلهه عمره عين يفجّرها |
|
ولا النخيل ولا ركض البراذين |
(البراذين بغال محسّة كانت من لوازم الاغنياء
واهل الدولة) يعني انه لم يستفد من خلافته
لزيادة ممتلكاته بانشاء المزارع والبساتين وتفجير عيون الماء لاجل ذلك، كما لم يكن من اهل الفراغ الذين
يهملون شؤون الرعاية لانشغالهم بسباق الخيل او الصيد، كما سبق لشاعر قبله ان ندد بالامويين.
تصيدون الارانب غافلينا |
|
لقد ضاعت رعيتكم وانتم |
كان الفرزدق مع الكميت الاسدي في مذهبيتهما الشيعية وضده في مجال السياسة، حيث ان الفرزدق كان يجاري
الامويين في ادارتهم للدولة بصرف النظر الى سلبياتهم، بينما الكميت كان معارضا عنيدا لسياسة بني أمية،
عبّرت عنه الهاشميات بقوة، وهي قصائد تتصدر الشعر السياسي في عموم العصر الاسلامي ثبتت فيها مواقع الخلاف
مع الامويين من وجوهها السياسية والاجتماعية كما رُسم فيها غرار الحكم المنشود بدلا من الحكم الاموي.
وفي مجال المذهبية لم يظهر الفرزدق انحيازا لفئة،
لكن حينما القى قصيدته الميمية المشهورة بحق الامام زين العابدين في مكة زمن الحج، عدّوه المؤرخون من
الشيعة.
ومع ذلك كانت عقيدة الفرزدق
الوحيدة هي ولاؤه لبني تميم، على انه حتى في هذا الولاء لم يكن تام الاستقرار، فبرغم ان تمسكه بمآثر
القبيلة ومواقفها التمردية يكمن في اساس النزعة التمردية التي اتسم بها سلوكه وتفكيره، فهو في نفس الوقت
كان من جيل آخر ترعرع في بواكير النهوض المدني في ديار الاسلام. وقد عاش معظم حياته متنقلا بين الحواضر
الاسلامية: البصرة والكوفة والشام. وكأنه ينعم مع جيله بمزايا الحياة الجديدة في تلك الحواضر، وربما اتاح
له ذلك ان يقارن ببن حياة عرب الجزيرة، ومنهم تميم، وبين هذه الحياة التي نعم بها هو وجيله كما نعم من
قبله آل كسرى.
ونعثر من بين مآثوراته على مقطوعة من اربعة ابيات هاجم فيها البداوة وشتم جده الاعلى تميم :
لكسرى كان اعقل من تميم |
|
عشية فرّ من بلد الضباب |
فأسكن اهله خصبا وريفا |
|
بجنات وامواه عذاب |
فعاش بنو ابيه بها ملوكا |
|
وعشنا نحن امثال الكلاب |
فلا رحم الله صدى تميم |
|
لقد ازرى بنا في كل باب |
ضباب (جمع ضب)
هذه الغضبة الدموية التي وصلت الى شتم المقدس
جاءت بعد تأمل طويل ومقارنة حية، ونحن نقرأ فيها فروض الحياة الجديدة التي بناها الاسلام في حواضره وسهلت
على الفرزدق ليس فقط ان يحياها مع ابناء جيله، بل والتفكير فيها كموضوع - - وسيأتي ابو نؤاس بعد اقل من
قرن ليشتم بني تميم مؤكدا انحيازه النهائي للتحضر.
لقد اشتهرت قصيدة الفرزدق
الميمية ذات الثلاثين بيتا، منذ اوائل القرن الثاني للهجرة، وسببها ان هشام بن عبد الملك الاموي، الذي ذهب
الى الحج واراد ان يبلغ الحجر الاسود، فلم يستطع من شدة الزحام عليه، فجاء علي بن الحسين، الملقب بزين
العابدين، وعليه آزار ورداء، فجعل يطوف البيت الحرام، فإذا بلغ الحجر تنحى الناس حتى يستلمه، هيبة
واجلالا، فاغتاظ هشام، وسأل الفرزدق الذي كان قريبا منه : قل لي يا ابا فراس! من هو هذا الذي هابه الناس
هذه المهابة وافرجوا له عن الحجر الاسود؟ فإرتجل الفرزدق قصيدته التي شاعت في حينها وانتشرت كسرعة البرق
وكان مطلعها :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته |
|
والبيت يعرفه والحل والحرم |
ومضمون القصيدة ولغتها شيعية محسومة من ذلك النمط الذي يظهر في شعر العلويين.
فلم يروق لهشام الاموي الحاقد سماع مثل هذا الكلام، فأمر بالقبض على الفرزدق وحبسه في سجن عسقلان الكائن
ما بين مكة والمدينة.
ولا شك في ان الفرزدق كان يتمنى
لو كان الخليفة من آل البيت، لا من الامويين، لانسجام ذلك مع نزوعه نحو العدالة والشرعية. وهي معياره في
الموقف من المذاهب، ورثائه للخليفة عمر بن عبد العزيز، يعزز هذا المعيار.
كان الفرزدق
اذا اعيته القصيدة خرج الى البر ونادى: اخاكم اخاكم ! والخطاب موجه الى الجن (المسؤولين عن الهاماته) - -
- ان الشعر حساسية تفيض على اللسان وتظهر طفحاتها في وعي صاحبها، وفي علاقته مع الجن يضع الفرزدق حساسيته
الشعرية رهن الحالتين: ثمة استغراق في الغيب بقطعه في واقعه المحسوس، تفجر موهبته المكبوتة قصيدة عامرة
بالقوة من نسج الجن الذين بنوا قصور الملك سليمان.
فكان في تكوينه
الذي تتكامل فيه شخصية حرة تندفع الى درجة الانفلات من السائد في مواصفاته الاجتماعية المحصنة بالدين
والسياسة. ولعله بذلك يحيلنا الى متاهات ابي نؤاس المغموس في اوج التمدن والتمرد على نظام القبيلة والدين
والمجتمع. لكن ابا نؤاس كان يصدر عن منهج مرصود ادلج له في شعره والتزمه في حياته بينما شعر الفرزدق
تقليدي عفوي ولا يتصل بشيء من الاعماق الفكرية لفيلسوف المجون. وتحرره نحو الاستقلال بمعنى اصطدامه بالوضع
السياسي والاجتماعي.
* شخصيات غير قلقة في الاسلام
لهادي العلوي.