Back Home Next  

 

 

قراءات من الشعر الجاهلي للوقوف على الاطلال: #5 

(العرب في العصر الجاهلي)

 

 مقتبس بتصرف من كتاب العرب في العصر الجاهلي، لمؤلفه دزيرة سقال،

الطبعة الاولى، دار الصداقة العربية للنشر بيروت 1995 

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A4_%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D8%B3#.D8.AF.D9.8A.D8.A7.D9.86.D8.AA.D9.87/

بقلم د. رضا العطار  

قراءة من معلقة امرئ القيس، كمثال :  

 

 التعريف بأمرئ القيس ( 492 ـ 552 م)

 

امرؤ القيس بن حُجر بن الحارث الكندي (520 م - 565 م) كان شاعرا عربيا جاهليا عالي الطبقة من قبيلة كندة، يُعد رأس شعراء العرب وأعظم شعراء العصر الجاهلي يُعرف في كتب التراث العربية باسم " الملك الضليل" و" ذي القروح"

 

هو امرؤ القيس بن حجر الكندي ولد بنجد، اوائل القرن الخامس الميلادي، ونشأ في قبيلة كندة.  وكان يتحدر من اسرة ملوك حكمت بني وائل.  وكان والد امرؤ القيس حجر مُملًكا على بني اسد. يشتد في معاملتهم ويغلظ فيهم، ويتربصون هم به، حتى اهتزً ملك الحارث ابيه، بعد ان خلفه كسرى انو شروان، فأنقضول عليه وقتلوه.

 

وكان حجر قد تبرًأ من ابنه امرؤ القيس وخلعه لتهتكه ومجونه، ومطاردته نساء القبيلة، وتشبيهه بهن، فعاش مع طائفة من الصعاليك، وتصعلك مثلهم، وضرب في المفازات والصحاري.

وكان امرؤ القيس يطارد الملذات غير آبه بحياة الملك وابهته.  ولكنه عندما بلغه نعي ابيه هاله الخطب الفادح وعاد الى نفسه واخذ يضرب بين القبائل يؤلبها ويحرضها على الثار من بني اسد، وقد ورث ملك ملكا مهتزُا، مصدًعا، واحسً بان اباه (ضيًعه وهو صغير وحمًله دمه وهو كبير).    

 

وواقع امرؤ القيس اسدا، وجعلها في ترحال دائم، ولكن هذا لم يرو غليله، لانه كان يريد ان يفني هذه القبيلة ويبيدها، ويبني ملك ابيه من جديد، ولكن المنذر بن ماء السماء لم يتركه يرتاح، فهدده، وهدد احلافه من القبائل، فانفضوا عنه شيئا فشيئا، وخذله اتباعه تباعا، وتقاعسوا وتركوه . . . فيمًم شطر يوستينيانوس قيصر الروم، مستنصرا، مستجيرا، فأمده بجيش واكرم وفادته . . . وقيل ان القيصر اهداه حلًة مسمومة، قرًحت جسده وقضت عليه، وربما كان مات بأنقرة، بعد ان أمضًه الالم نفسا وجسدا.

 

وضمن ما قالت (موسوعة الشعر العربي) فيه: تبدو الطبيعة في شعر امرؤ القيس وقد استكملت غايتها، وادركت اقصى حدودها، انتشر الجمال بارضها وسمائها، وتجسًد في عناصرها، لا يعروه امامها قلق او حيرة ولا ينبعث فيه قنوط امام تكرارها ورتابتها، بل انها تنداح امام ناظره كشريط ضاحك . . . وكبساط من السعة والفرح، مدتًه امامه الحياة، لقيم عليه افراحه . . . اما المرأة، وهي صنو الطبيعة وكمالها في شعره، فيتولاها، حينا بالحس والغريزة وحينا بالبراح والحنين، وموقفه منها يرمز الى موقفه من الحياة جميعا.

 

      ديانته

كان دين امرئ القيس الوثنية وكان غير مخلص لها. فقد روي أنه لما خرج للأخذ بثأر أبيه مر بصنم للعرب تعظمه يقال له ذو خلصة. فاستقسم بقداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص. فأجالها فخرج الناهي. فعل ذلك ثلاثاً فجمعها وكسرها. وضرب بها وجه الصنم. وقال: "لو كان أبوك قتل ما عقتني".

 

 

 معلقة امرئ القيس ومناسبتها:

 

روى القاضي الزوزني مناسبة المعلقة قال : ذكر رواة ايام العرب ان امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي كان يعشق عنيزة ابنة عمه شرحبيل، وكان لا يحظى بلقائها ووصالها، فأنتظر ظعن الحي، وتخلف عن الرجال، حتى اذا ظعنت النساء سبقهن الى الغدير، المسمى دارة جلجل، واستخفى، ثم علم انهن اذا وردن هذا الماء اغتسلن، فلما وردت العذارى اللواتي كانت عنيزة فيهن ونضون ثيابهن وشرعن في الانغماس في الماء ظهر امرؤ القيس وجمع ثيابهن وجلس عليها، ثم حلف على الا  يدفع اليهن ثيابهن إلا بعد ان يخرجن اليه عاريات، فخاصمته زمنا طويلا من النهار، فأبى إلا ابرار قسمه، فخرجت اليه اوقحهن، فرمى بثيابها اليها، ثم تتابعن حتى بقيت عنيزة واقسمت عليه، فقال : يا ابنة الكرام لا بد لك من ان تفعلي مثل ما فعلن، فخرجت اليه، فرآها مقبلة ومدبرة، فلما لبسن ثيابهن اخذن في عذلة، وقلن : نعم.  فعقر راحلته ونحرها، وجمعت الإماء الحطب، وجعلن يشوين اللحم الى ان شبعن، وكانت معه ركوة، فيها خمرا، فسقاهن منها، فلما ارتحلن قسمن امتعته، فبقى هو دون راحلة، فقال لعنيزة: يا ابنة الكرام لا بد لك ان تحمليني، والحت عليه صواحبها ان تحمله على مقدم هودجها، فحملته، فجعل يدخل رأسه في الهودج يقبلها ويشمها . .  وقد ذكر هذه القصة في قصيدته التالية .

بسقط اللوى بين الدخول فحوملي

 

قفا نبكَ من ذكر حبيب ومنزلَ

 لما نسجتها من جنوب وشمال

 

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

وقيعانها كأنها حبُ فلفل

 

ترى بَعرَ اللارام في عرصاتها

لدى سمرات الحي ناقف حنظل

 

كأني غداة البين،  يوم تحملوا   

يقولون : لا تهلك آسى وتجمًل

 

وقوفا بها صحبي على مطيهم

فهل عند رسم دارس من معوًل

 

وان شفائي عُبرة مهراقة

وجارتها أم الرباب بمأسل

 

كدأبك من أمً الحويرث قبلها

نسيم الصبا جاءت بريًا القرنفل

 

اذا قامتا تضوع المسك منهما

على النحر، حتى بلً دمعي محمل

 

ففاضت دموع العين مني صبابة

 

 

  تحليل الابيات !

 

البيتان الاول والثاني: لعل المخاطبة بالمثنى ان تكون عادة من عادات العرب كما ذكروا،

ولكننا نرى الى جانب هذا، ان مثل هذه المناداة انشطار الذات الى ذاتين: الذات التي عانت التجربة بكل تفاصيلها، والذات التي تستعيد هذه التجربة.  وليس الحنين الى الماضي إلا التمني العميق ان يتوقف التغير الرهيب الذي يجرف معه كل شيء.

فالزمن من خلال هذا العُرف، آنات سيالة، صائرة، لا حول للانسان امام تحولها ولا قوة، ومن هنا حضور الغياب المستمر في القصيدة الجاهلية من خلال الوقوف على الطلل وذكر الاحبة.

والبكاء هنا، من الذكرى، فالمنزل والحبيب كلاهما طيف دائر في ذهن الشاعر، يستحضره بحسرة وأسى هما صورة لخسارة الانسان المحتًمة لما يحب.

 

وتعداد الاماكن ايضا عادة درج عليها العرب.  ولكنها، في نظرنا، ترتبط بالمدلول المأساوي للغياب والتغيب.  فكان الشاعر يتمسك بالمواضع التي وطئها بحثا عن السعادة او في طريقه اليها. وليست واقعية الشاعر ههنا واقعية عادية، انها ممزوجة بوجدانية متحسرة.  ولعل معظم الشعر الجاهلي يخبط بين واقعية مسطحة لا بد منها لانها انعكاس لعقل بدائي، وبين وجدانية منسحبة على الاشياء، لان العرب في الجاهلية بعامة، يعيشون بأعصابهم . . . فإن أحبً أحبً حتى العبادة وإن كره كره حتى الموت.

أما صورة الريح التي تتلاعب بالتراب، فتهيله تارة فوق الاطلال وطورا تحسره عنها، فأنعكاس لفعل الزمن الجاهلي الذي يجرف معه كل شيء الى غير عودة.  انها حالة التغير تضرب الاشياء والذوات فتسلب البشر اغلى ما يملكون، عمرهم.

وفي الشعر الجاهلي تنعكس صورة الذات الطفلة التي يهمه ان تستوضح الاشياء.  فالعلاقة السببية مستحكمة في هذين البيتين : قفا نبك (سبب الوقوف البكاء)  لم يعف رسمها لما نسجتها . . . (سبب عدم امحاء الرسم : ما نسجته . . . ) وهذا انعكاس لعقل بدائي لا يقبل بالتجريد، لان التجريد كثيرا ما يتخطى العلاقة السببية الى الغائيات، والغائيات تعصى على البدائيين.

 وربط المنزل بالحبيب في البيت الاول من خلال التجاور والعطف (حبيب ومنزل) هو ربط الحال بالمكان، اي تحويل الهامد الجامد الى جمرة حسية انبعثت من ثباتها الى الحياة، ورسمت بجمرها اثرا في الذات.

وان التركيز على المكان (خمسة اسماء امكنة متتالية : سقط اللوى، الدخول، حومل، توضح، المقراة) هو انعكاس لعلوق الجاهلي بالارض، وانشداده اليها على الرغم من قسوته وتغريبه.  ومعنى الانشداد الى الارض هو طغيان الحس على سواه، اي الانطلاق من اقرب الاحاسيس وابسطها للتفاعل مع الوجود.  ومن هنا قلنا، شابت واقعية الجاهليين وجدانية كثيرة هي تنفيس عن حركة اعصابهم. 

 

 البيت الثالث : وصف المكان الخرب هو بمنزلة توكيد على مأساة الغياب، والتالي على واقع العدم الذي يحيق بالذات ويحاصرها.  فالفراغ وحده سيد الموقف، والمنزل الذي كان، من قبل، مأهولا،  بات مرتعا لحيوان الصحراء، آبدا.  إنه الخواء الذي يتسلل الى الذات من نقصان الوجود المتدرج، او هو، إن شئت، صورة المصير الذي تنغمس فيه الذات حتى العظام، وما يزيد من الحسرة ان هذا المكان كان فيه التملي من السعادة، فإذا هو بوار.

 

 البيتان الرابع والخامس: التصعيد العاطفي الذي نقف عليه هنا هو من مميزات الشعر الجاهلي، ومن مميزات الذات التي تتصرف باعصابها.  ويعكس لنا البيًن مأساة الفراغ والزوال، وتواكبه لفظتان مكملتان : تحملوا، المطيً.  انها نماذج للسفر المستمر، اي للاغتراب في الصحراء. هذا الاغتراب انعكاس لطبيعة الصراع الحاد مع الزمن من هنا حدة الشعور بالاسى. والدلالة الزمنية واضحة هنا: غاة ـ يوم.  انها صورة الزوال لانهما مختصتان بالماضي، ولكن هذا الماضي لا ينقطع في الامس بل يستمر حتى اليوم ويخترق آنات الزمان بكامله، حتى تشمل المأساة زمن الانسان. والصحب ههنا شهود على هذه المأساة. انها شهادة على الغياب والقدر المحدقين اللذين يضربان في الفيافي والقفار، ويترصدان الجاهلي كل لحظة وفي كل زاوية من زوايا الصحراء.

 

 البيت السادس: تتجلى في هذا البيت مأساة الاستحالة: البكاء واقع محتوم ناتج عن تصعيد المشاعر، ولكن الجدوى معدومة منه.  فهذا العلاج النفسي يعكس ايضا فراغه وعقمه ولو نظريا.

هكذا يتحول الرسم الدارس كتلة وجدانية تتجسد في الذات ثم تخرج منها مشروعا لخلاص موهوم، والشاعر يستفهم عن جدوى هذا الشفاء استفهاما فيه اللوعة والحسرة ما فيه من مأساة البطلان والعقم : انه خلاص عقيم، عبثي. 

 

 البيتان السابع والثامن:   هنا انتقال مفاجئ الى الغزل ودخول مدهش للمرأة الى حرم المسألة، فالمرأة في نهاية المطاف، ومن خلال هذين البيتين، تصعًد حدة المأساة، لانها تصور السعادة الهاربة من بين اصابع الانسان كالزئبق.  وكأنما المرأة هنا، جرح لا بد منه: جرح رائع يخترق القلب، ولكنه يمكًن الذات من الوقوف في وجه الزمن.  وعندما يطارد الجاهلي المرأة يتحول الى فارس يعاني المعركة، انها اشبه بقدرة تقبض عليه، ولا يملك هو الا ان يختاره ولكنه إذ يختار، يرتاح، ويعوض عن شعوره بالنقصان، والخيبة امام الزمن.  ويوقف اغترابه مرحليا، وعندما يمتلك الجاهلي المرأة فكأنه يقبض على الزمن ويستحضره امامه ويقتحمه اقتحاما مدهشا.

 وتبرز المرأة في هذين البيتين متعددة، كثيرة (ام الحويرث وام الرباب) كأن التملًي من المرأة واحدة او متعددة، قبضا على الزمن السيال، انها فروسية الاقتحام الانثوي.

ولا ترضي الشاعر امرأةُ، بل ترضيه المرأةُ. فللاباحية هنا دورها النفسي وتفسيرها، وهي بمنزلة انتقام من الزمن، واغتصاب له، الشاعر يروًض بأباحيته الزمان، والمكان، والقدر.

وعندما يرصد امرؤ القيس في البيت الثامن حركة المرأة يرصد معها حركة خفية هي حركة المسك المتضرًع، انه يجسد حركة الشعور الذي يواكب الحركة الجسدية، وبالتالي يربط بين حركة الشعور المتجسدة وحركة الجسد.  ولكن الحركتين كلتيهما متداخلتان، فحركة الجسد ههنا، وهي جنسية ـ اي لها خلفيات شعورية ـ تشبه حركة الرائحة ـ والرائحة لا ترصد، حركتها، وهي تتحول هنا الى حركة شعورية.   

وليست المرأة، اخيرا كيانا خاصا مستقلا، انها جزء من لوحة الصحراء واطارها، وبالتالي جزء مكمل للمكان.  فقد تعامل الجاهلي بعامة مع المرأة ـ التمثال، اي المرأة التي يتصورها في خياله، فجاءت على شاكلة واحدة عند كل الجاهليين، لقد فصًل ثوبا البسه كل النساء، ولم يفصًله على مقياس امرأة واحدة. 

 

 البيت التاسع: عاد امرؤ القيس الى حال التصعيد الشعوري بعد ان سقط مجددا في الواقع، ولم يعد سيدا على الزمن.  ويعني الدمع، ههنا اننا نعجز عن التمثل الفعلي، فنستبدل الدمع بهن كما يعني الجمع بين الدمع والصبابة، تداخل الواقع والأسى، وانحلال الحلم وتكسًره في صلابة الواقع وصفاقته.  انه الفشل المستمر في القبض على الزمن السيال، الهراب، وما من معزً . . . هكذا تكون النرجسية نوعا من الحفاظ على الذات في عالم يتهددها كل لحظة.

وتفيد المبالغة المنتشرة في هذا البيت ـ التاسع ـ براءة الذات التي تنظر الى الوجود بقلب طفل، وتفي، ايضا، تصعيد العجز الى حد يجعل الوجود مُرًا، والذات منكسرة امامه، تتحين الفرص لتقف وقفات تأكيد على نفسها بنفسها، او بالآخر ( الحب ـ المرأة ).