Back Home Next 

ابعاد النزاع الطائفي في العراق

خالد القشطيني

استعراض تاريخي وتحليل سريع ... لا يخلومن الهفوات لكنه معقول في زمان يفتقد العقلانية !!

 

ينظر الكثيرون الى ما يجري الآن في العراق من منازعات طائفية على انها نتيجة لصراع عقائدي يرتبط بأحقية الخلافة وما اذا كان ابوبكر اوالامام علي احق بها وكذلك بعض الفروق في تطبيقات الشريعة الاسلامية وبعض الطقوس الشكلية. الأمر ليس كذلك فهذه النقاط امور ثانوية تتفرع عن مواضيع اوسع واكبر واخطر بكثير. معظم الناس في العراق شيعة اوسنة لا يعرفون تفاصيل النزاع على الخلافة ولم يسمعوا قط بموضوع السقيفة ولا يعبؤن اساسا بقضية مرت عليها مئات السنين. يشارك السنيون زملائهم الشيعة في محبة آل البيت، ولوبدرجة اقل. تراهم يحضرون المواكب والتعازي الحسينية ويزورون العتبات الشيعية في كربلاء والنجف والكوفة وسامراء. ويقدمون النذور اليها. الزواج المختلط بين الطائفتين شائع جدا. والاختلافات بين تطبيقات الشريعة لا تهم احدا فتراهم يغيرون انتمائهم الطائفي لأغراض مصلحية، غالبا ما تتعلق بالارث والطلاق، بكل يسر وعدم اكتراث. ولم اسمع عن اي شيعي يمارس زواج المتعة في العراق . وقلما وقعت تاريخيا أي مصادمات دموية بين الطائفتين . واعتادوا على العيش سوية جنبا الى جنب. تفاجأ الكثيرون في هذه الايام بما سمعوا عن الاقتتال الجاري منذ سقوط صدام حسين واستغربوا من امره.

ومع ذلك فلهذا النزاع جذور عميقة، ولكنها ابعد ما تكون عن العقيدة اوالدين. إنها عوامل جيوفيزيائية واقتصادية. يبدأ جورج روكس كتابه القيم " العراق القديم" بقوله ان كل تاريخ وحضارة هذا البلد توقفت على وضعه الجيوفيزيائي ومكانه في خارطة المنطقة. ليس لهذه الدولة الكبيرة، ايران، منفذ للبحر المتوسط، المسرح التاريخي لمعظم المنازعات والحروب. السواحل الايرانية على الخليج صعبة الملاحة وعسيرة الموصلات وبعيدة عن المراكز الرئيسة في ايران، الأمر الذي اضطر الحكومة الايرانية في السنوات الاخيرة لمد سكة حديد بكلفة باهضة من طهران الى بندر عباس على الخليج. شط العرب هوالمنفذ الرئيسي والبعيد ويسيطر عليه العرب ولا ينفع للتجارة مع الغرب والعالم العربي (باستثناء الجنوب). منذ ان اصبحت ايران دولة امبراطورية اعتمدت اولا على " الطريق الملكي" الممتد من شوشة الى ازمير في جنوب تركيا. ظهرت الحاجة لموطيء قدم على البحر المتوسط وطريق سالك عبر وادي الرافدين وبلاد الشام تستطيع السيطرة عليه.

جرها ذلك الى حروب متواصلة وضارية ضد بابل ومصر ثم الاغريق فالرومان ، فالبيزنطيين فالعثمانيين واخيرا العراقيين في عهد صدام حسين. ويلوح لي انه قد يجرها للاصطدام الآن باسرائيل ويفسر تهديداتها لها وتحالفها مع حزب الله في جنوب لبنان.

هذا الطريق الموازي لطريق الحرير التاريخي، هو شريان الحياة لايران ولكنه يمر بالعراق وسوريا ولبنان. اقتضى ذلك اعتمادها على حسن نية هذه الدول وتحملها تكاليف اضافية لنقل وحماية صادراتها ومستورداتها عبر تجار وعمال اجانب. اقتضى عليها دفع عمولات وعلاوات ورشوات باهضة كما تعرضت للتلف ولقطاع الطرق والمهربين ورسوم الترانسيت. اغتنت عوائل عراقية كثيرة من هذه العمليات. قيل ان عبد الكريم قاسم استغرب واعترض على كمية الشاي المستورد للعراق. بيد ان وزير التجارة افهمه بأنها بضاعة لاعادة التصدير لايران بما يدر على العراق بدخل اضافي. ولا شك ان الحكومة الايرانية ظلت تتمنى وضع يدها على هذا الطريق.

وبعد ان تشيعت ايران في القرن السادس عشر، ظهرت حاجة الايرانيين لزيارة العتبات المقدسة في العراق وتقديم النذور اليها ودفن موتاهم بجوار الامام علي في وادي السلام. ترتب على ذلك نزيف آخر للعملة الايرانية بما اضطر الشاه في الثلاثينات الى منع تصدير الموتى الى العراق. وكل ذلك بالاضافة للحاجة الى استعمال العراق كقاعدة للحجيج الى مكة المكرمة.

في 539 استطاع الملك كورش احتلال بابل والزحف نحوالبحر المتوسط. ومنذ ذلك الحين حتى الفتح الاسلامي بقي العراق في حكم الفرس الذين بنوا عاصمتهم الشتوية في طيسفون بجانب بغداد. اعتادوا على نقل حكومتهم اليها في فصل الشتاء. شقوا الانهار والترع وحولوا البلاد الى جنة خضراء. ولا عجب ان بقي الايرانيون يحنون للعودة لاحتلالها وحكمها. غير ان البلاد ظلت تحت حكم العرب حتى سقوط بغداد على يد هولاكوثم آلت بيد العثمانيين بعد ذلك.

احتلال آل عثمان للعراق ووقوع ايران بيد الصفويين اصبح سببا رئيسيا للانقسام الطائفي . ظل الطرفان يتنازعان على بغداد وخاضا حروبا متعددة لهذا الغرض. تبنى العثمانيون السنة وتبنى الايرانيون الشيعة . فما كان لاهل بغداد غير ان ينشدوا " بين العجم والروم( العثمانيين) بلوى ابتلينا!" يورد الدكتور الوردي في كتابه الموسوعي "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث " الكثير من تفاصيل ذلك.

من نتائج هذا الصراع ان تشكك العثمانيون في ولاء الشيعة واعتمدوا على السنة الحنفيين في الجيش والادارة. ولما كانت القوانين العثمانية ( المجلة والعقوبات والاحوال الخاصة) تقوم على الشريعة الحنفية فقد اصبح من الطبيعي ان يحصروا مهنة القضاء في الحنفيين. وهكذا تدرب ابناء السنة على قيادة الجيش والشرطة والادارة والقضاء. وعندما انتهى الحكم التركي واقيمت المملكة العراقية لم يجد الانجليز والملك فيصل احدا مؤهلا لإشغال المناصب في هذه الميادين غير السنة. فامتلأت الدولة بهم.
ماذا عن الشيعة؟ ادركوا ان الدولة العثمانية لا تعتمد عليهم ولا تعطيهم فرصة في هذه الميادين. توجهوا الى التجارة وبعض الزراعة والاعمال الحرفية. كان جل الصفارين في سوق الصفافيرمن الشيعة.

بنتيجة هذا التقسيم المهني، تفرغت العوائل السنية الى تعليم اولادهم وارسالهم الى اسطنبول واحيانا لاوربا للحصول على الشهادات والاختصاصات تمهيدا لاستلامهم الوظائف والمناصب في الدولة. هكذا اصبحوا قائمقاميين ومتصرفين وقادة في الجيش والشرطة واطباء ومحامين ومعلمين.

لم تجد العوائل الشيعية جدوى من وراء ذلك. فالدولة لا تثق بهم ولا تعطيهم مناصب فيها. من رغب في التعلم والدراسة ذهب الى النجف الاشرف لتلقي العلوم الدينية ، الفقه واللغة والشعر والشريعة الاسلامية وهكذا. فبينما تلقى ابناء السنة العلوم الدنيوية تلقى ابناء الشيعة العلوم الدينية. تخرج منهم كل ؤلئك العلماء في الدين الذين اشغلوا المرجعيات ، والشعراء الذين اغنوا الادب الحديث ، الجواهري وبحر العلوم والشبيبي وعلي الشرقي وسواهم.

ماذا عن خريجي النجف الآخرين ؟ اشغلوا ما سمي بوظيفة "المومن" فلبسوا العمائم وراحوا يكسبون قوت يومهم في القرى والارياف، يعلمون القرويين دينهم والمذهب الشيعي ويقومون بعزاء الحسين ويقضون حاجات البسطاء بأبسط ما يمكن من وسائل. قدر لعملهم هذا ان يقلب موازين القوى في العراق. ما قاموا به كان عملية تبشيرية بالمذهب الجعفري. تمكنوا بمرور السنين ان حولوا الكثير من العشائر من المذهب السني الى المذهب الشيعي بحيث اصبح الشيعة في الثلاثينات يكونون الاكثرية في البلاد. ولا شك ان الجوانب العاطفية والدرامائية من طقوسهم المرتبطة بمقتل الحسين قد ساعدتهم في مهمتهم. يذكر الباحث احمد هاشم الغانمي ان العثمانيين فتحوا لهم المجال لاسباب سياسية منها الوقوف في وجه الوهابيين. لم يقم السنة بأي مجهود في هذا الاطار. كانت الدولة بيدهم وكفى. قضوا وقتهم في التآمر على بعضهم البعض حتى فلتت من يدهم.

عندما قامت الثورة العربية، انسلخ بعض الضباط العراقيين ، نوري السعيد والهاشمي والعسكري والمدفعي وطاهر عارف وعبد الرحمن عارف وسواهم (كلهم سنة طبعا) من الجيش العثماني والتحقوا بالثورة وصاحبوا الامير (الملك فيما بعد) فيصل في الزحف على دمشق. اصبح من الطبيعي للملك فيصل ان يكافأهم على دورهم فأشغلوا قيادة الجيش والشرطة. لم يكن بينهم شيعي واحد. وكذلك لم يشارك اي شيعي في الجمعيات الوطنية العربية السرية التي تشكلت في اوربا خلال العهد العثماني ، كجمعية العهد. اقتصر الدور العراقي فيها على السنة كتوفيق السويدي، فعادوا متأثرين ومزودين بالثقافة المعاصرة وبالتالي الاهلية للحكم.

وهكذا فعندما تأسست المملكة العراقية تحت الانتداب البريطاني في 1920 لم يجد الملك ولا الانجليز غير عدد قليل جدا من الشيعة مؤهلا تأهيلا معاصرا لمهمات الدولة فملؤها بالسنة واليهود. لم يكن هناك غير شيعي واحد بين ثمان وزراء في اول حكومة مؤقتة ( عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى ، ص250) لكنهم شعروا بهذا النقص ففتحوا دورة سريعة لعدة اشهر لدراسة القانون والادارة لآبناء الشيعة واعطوهم شهادات حقوق مكنتهم من استلام بعض الوظائف. كان صالح جبر واحدا من هؤلاء فدخل سلك الادارة وارتقى حتى اصبح رئيسا للوزراء في الاربعينات.

تعاظم النقص الشيعي في الدولة ايضا بسبب الفتاوى التي صدرت من النجف بتكفير الحكومة الفتية وكل من يعمل فيها. لابد ان ساهم ذلك ايضا في تردد المتعلمين من الشيعة في قبول اي وظيفة فيها وتركوا الابواب مفتوحة لغيرهم. السوآل الآن لماذا اصدرت النجف هذه الفتاوى؟

يجرنا الجواب على هذا السوآل مرة اخرى لموضوع ايران. فعندما انتهت الحرب العظمى بانهيار الامبراطورية العثمانية ، سارعت الدول الى اقتسام تركتها. بدأ الشاه بأخذ نصيبه منها بابتلاع الاحواز ( عربستان) بعد دعوة اميرها الشيخ خزعل الى طهران ثم اعتقاله واخيرا اغتياله واعلان ضم الاحواز رسميا الى ايران في 1925.

ثم حول انظاره الى العراق. فرفض الاعتراف باستقلال العراق اواقامة الانتداب البريطاني فيها ، معتبرا كل ذلك غير شرعي. وبما عرف من النفوذ الايراني في النجف لابد ان اوعز لمشايخها (والكثير منهم، ربما اكثرهم، ينتمون لجذور فارسية كما تدل اسماؤهم) بعدم الاعتراف بالحكم الجديد وتكفير كل من يخدمه. كان علماء النجف، وعلى رأسهم محمد تقي الشيرازي قد تكاتبوا مع الشريف حسين يحثونه على الثورة ويدعونه لارسال احد ابنائه للعراق. ولكنهم سرعان ما قلبوا ظهر المجن لأبنه فيصل عندما جائهم في 1920. يذكر حسين الشامي في كتابه " المرجعية الدينية" ان فتوى مشتركة من الاصفهاني والخالصي والنائيني قد صدرت تدعوا لمقاطعة الانتخاب الذي دعى اليه فيصل: "من دخل فيه اوساعد عليه فهوكمن حارب الله ورسوله واوليائه!"
ايه يا رسول الله! كم من المآسي والمهازل مثلت بإسمك!
ودعت المرجعيات بعد ذلك الى تحريم العمل للحكومة الجديدة في كل مؤسساتها ومصارفها العامة ومدارسها ووصف الشيرازي الوظيفة الحكومية المفسدة غير شرعي. بلغ الأمر حتى تحريم دفن المشاركين فيها في مقابر المسلمين.

ما السر في هذا التحول؟ رأى المؤرخون السنة ان المرجعيات وقفت هذا الموقف لأن الانتخابات رتبت بحيث لا تعطيهم الهيمنة على البلاد ، كما اعطتهم اليوم. بيد انني ارى ما هواكثر من ذلك. لقد ايدوا ثورة الحسين ودعوه لارسال ابنه للعراق لأنها كانت ثورة ضد الاتراك السنة، اعداء ايران، عدو عدوي صديقي. ثم قلبوا ظهر المجن بعد سقوط العراق بيد الانجليز. اعلنوا الثورة ضدهم ورفعوا شعار"لا مفاوضات قبل الجلاء". فبإخراج الانجليز ايضا بعد خروج الاتراك يصبح العراق فراغا فاغرا تملأه ايران بيسر، على نحوما حلم به الشاه. لم تسمح لهم انكلترا بذلك.

استمر هذا الوضع حتى عام 1932 عندما اعلنت عصبة الامم قبول العراق عضوا فيها. ضغط الانكليز على طهران عندئذ لتعترف بالأمر الواقع وهوما تم. ولكن بعد فوات الاوان بالنسبة لشيعة العراق. وجدوا ان القطار قد فاتهم.

بعد ان غسل الشاه يديه من العراق، اثار موضوع المطالبة بالجانب الشرقي من شط العرب عام 1936. رفضت بغداد ذلك وتأزم الوضع بين الدولتين الى ان اشرف على خوض حرب بين الجانبين، لولا تدخل الانكليز مرة اخرى واقناع طهران بقبول حل وسط اعطاها جزء آخر من الشط.

بيد ان هذا النزاع المستمر مع ايران غرس في اذهان المسؤولين العراقيين بأن الدولتين لابد ان تخوضا حربا عاجلا ام آجلا. وهوما حدث طبعا عام 1980. عاد المسؤولون السنة الى الخوف العثماني من ولاء الشيعة في مثل هذا المعترك. قرروا إبعادهم من قيادات الجيش والشرطة واجهزة الأمن والمخابرات، والى حد ما من وزارة الخارجية ايضا. وبذلك تعمقت الهيمنة السنية على هذه المراكز.

لعبت روح القبلية والتضامن العائلي التقليدي عندنا والمتمثل بفكرة الاقربون اولى بالمعروف، دورها في الموضوع. فعندما عينت الدولة مديرا عاما سنيا ، اقتضى عليه تقريب اقاربه واعطائهم مناصب يستحقونها اولا يستحقونها في مديريته. ومارس كل من هؤلاء ايضا هذه الروح وجاء بأقاربه. هكذا ساهمت فكرة المحسوبية هذه في توسيع الغلبة السنية في الوظائف.

بفعل روح التآمر والكيد والخيانة ايضا، رأى المسؤولون ان خير وسيلة للتأمين ضد ذلك هي ان يحيطوا انفسهم بإخوانهم واقاربهم. ابدع صدام حسين في الاعتماد على ذلك فأحاط نفسه بأخوته وابناء عمه واستطاع بذلك ان يضمن بقائه اكثر من ثلاثين سنة.

من الطبيعي ان يشعر الشيعة بالاستياء من كل ذلك ويطالبون بحقوقهم في الدولة، ولاسيما بعد ان اصبحت الوظيفة المنفذ الرئيسي لكسب العيش بين ابناء الطبقة المتوسطة. زادت تلك المشاعر بعد تدفق واردات النفط بالملايين والمليارات وتعاظمت العركة على الكعكة. ولكن الشكوى والموضوع من اساسه لا يرتبط في العراق بالمعتقدات والطقوس الدينية. لقد تفجرت الطائفية بنتيجة ظروف تاريخية كما رأينا.

سعت الحكومات المتعاقبة لمعالجة هذه الوضع فتسلم اربعة من الشيعة رآسة الوزراء. واصبحت الامتحانات سرية للغاية وتوقف الدخول للكليات والحصول على البعثات على ما حزت عليه من الدرجات. وتألف مجلس الخدمة للنظر في اختيار الموظفين حسب امتحانات ومقابلات سرية لا سلطة للوزير عليها. وبهذا سار العراق تدريجيا نحوالمساواة الحقيقية في النصيب من الدولة. لم يكن صدام حسين حامي حمى السنة. ما كان يهمه هو امنه وسلامته فأحاط نفسه بأقاربه لا لأنهم سنة وانما لأنهم اقاربه لا يتآمرون عليه. هناك الآن شتى الارقام التي تكشف عن تمثيل مكثف للشيعة في حزب البعث. ذكر صدام حسين للمخابرات الامريكية ( اف. بي. آي) انهم كانوا يمثلون الاكثرية في الحزب عام 1963 وتولى شيعي رآسة الحزب ( راجع المذكرات في صحيفة الشرق الاوسط 2006) وتعاظم وجودهم في الوظائف.

فتك بحزب الدعوة لا لأنهم شيعة وإنما لسعيهم للاطاحة به. والواقع انه قام بأكثر من ذلك ضد القوميين والكورد السنة بل وحتى البعثيين. كل ما كان يقوم به من خروقات مبعثه الحفاظ على سلامته ولا يمت للدين اوالطائفة بأي صلة. اعتمد في كل شيء على طارق عزيز لمجرد انه كان مسيحيا لا يستطيع ان يأخذ الحكم منه.

إن قانون الاستمرارية الذي يسري في علم الفيزياء ينطبق ايضا على علم السياسة، كما لاحظ لنين بالنسبة لمشاكل الاتحاد السوفيتي. فجل ما وقع خلال العهد الملكي في هذا الموضوع جاء بمثابة استمرارية لما خلفه العثمانيون من تركة وما ترتب على نزاعهم مع ايران.

من الملاحظ ان العراقيين اقل الناس ايمانا بالدين، وهي ظاهرة تمتد الى ايام سومر وبابل. وخلال الحرب العالمية الثانية ودخول الاتحاد السوفيتي في الحرب بجانب الحلفاء، فسح المجال للحزب الشيوعي واليساريين عموما للنشاط فانتشر الفكر الماركسي والوجودي والبعثي بين المثقفين والعمال واصبحت الامور الطائفية والدينية لا تلقى من الجمهور غير السخرية. تعاظم هذا الاتجاه في عهد عبد الكريم قاسم . غير ان انقلاب 1963 وما تبعه من تصفيات لليسار العراقي اضعف الروح العلمانية وفتح المجال للغيبيات والتراثيات. وبعد انهيار الشيوعية والاشتراكية عالميا وفشل الوحدة العربية والحركة القومية في العالم العربي فسح المجال لما سمي بالصحوة الاسلامية. وعاد الدين ليلعب دورا اساسيا في تفكير الناس. ولكنه جر في اذياله شتى التشققات والخلافات ومنها الطائفية.

وهنا نأتي اخيرا لدور اسرائيل في هذا الموضوع. لا يتخوف الاسرائيليون من دولة عربية كما يتخوفون من العراق لأسباب كثيرة، منها التأريخية. حرصوا على تمزيق العراق كعدو رئيسي. حدث في عام 1974 ان اشعرت غولدا مئير بول ولفويتز بالخطر الذي تشعر به اسرائيل من تعاظم قوة عراق صدام حسين. فسعوا بما لهم في عهد بوش من تأثير على البيت الابيض والبنتاغون الى اسقاط صدام حسين بغزو العراق. وكان من افكارهم نقل الحكم من السنة الى الشيعة الذين اعتبروهم اقل تحمسا لموضوع فلسطين، كما ذكر لي احد الاكادميين الاسرائيليين.

سعوا لحل الجيش العراقي واجهزة الامن. فتحوا المجال لصياغة دستور وديمقراطية تعطي الاكثرية للشيعة وتمهد لتقسيم البلاد. وبتدفق واردات النفط بالمليارات دون حساب او كتاب تفاقمت العركة على الكعكة . وشاع النهب والفساد. فلأول مرة وجدوا خزينة البلاد بأيديهم. جاء دور السنة الآن ليشعروا بالحيف. ومن جانبهم سعى الشيعة لدعم مركزهم ومكاسبهم بتشجيع الروح الطائفية وترويج الافكار والممارسات السلفية والاستنجاد بمرجعية النجف في كل شيء. ولعبت ايران دورا مهما في هذه التوجهات.

يتسائل الجميع كيف يمكن التخلص من هذه الطائفية وما تجره من ارهاب وجرائم.

الجواب بسيط. هناك 130 مليار دولار يستلمها العراق سنويا من النفط بدون حساب اوكتاب اوسوآل وجواب. العركة تقوم على اقتسام هذه الكعكة. والشعب العراقي الآن مثل المريض في غرفة الانعاش. لا يقوم بشيء ويتلقى غذائه والاوكسجين من انابيب تصب في شرايينه (عوائد النفط). يعني ذلك ان الحياة تعتمد على الوظائف. وهذا يتطلب العدالة في توزيعها لئلا يشكومظلوم من ضيمه. ينبغي اعادة الحياة لانظمة الحكم الملكي:

1.  اولا الحرص على سرية الامتحانات العامة.

2.  ثانيا توزيع البعثات والاماكن في الجامعات حسب الدرجات وفي اطار الشفافية.

3.  ثالثا توزيع الوظائف عبر مجلس الخدمة المستقل الذي يتولى الاختيار بسرية حسب المؤهلات والدرجات والامتحان الذي يجريه المجلس بسرية ايضا.

4.  ووراء كل ذلك ايضا ينبغي تحاشي زج الخلافات القديمة في مناهج التدريس والتركيزعلى العلوم الحديثة والفكر العلماني.

5.  وللحصول على برلمانات كفوئة وناضجة في دول متخلفة ذات نسبة عالية من الامية ينبغي حصر حق التصويت في المتعلمين (خريجي المدرسة المتوسطة مثلا) .

6.  ولكن وفوق كل شيء ينبغي الفصل بين الدولة والدين وخلق نظام علماني عصري.

واخيرا هات من يسمع وضجيج العركة على الكعكة يصم الآذان.