Back Home Next 
 

ماذا لو بقي الحكم الملكي في العراق لحد اليوم
 

وسام الشالجي

 

كثيرا ما اطلقت مخيلتي في تصور الاوضاع في العراق فيما لو لم تحدث الثورات في العراق ابتداء من  عام 1958 وما بعدها وظل الحكم الملكي هو النظام الحاكم في العراق الى يومنا هذا . كثير من الناس يقولون بان العراق كان يمكن ان يكون مثل الاردن على سبيل المثال , لكن هذا غير صحيح بالمرة لان امكانيات العراق تفوق امكانيات الاردن بمئات المرات . تعالوا معي نحلق في عالم خيالي نتصور فيه بان الحكم الملكي دام واستمر بالعراق حتى ساعتنا هذه , ونبني بناء على المعطيات التي كانت سائدة في وقتها بلدا في الخيال عن ما كان يمكن ان يكونه عراق اليوم .

 

1-    اولا كان سيكون عمر ملكنا فيصل الثاني الأن التاسعة والسبعين من العمر , ومع ان الاعمار بيد الله فان من المرجح بان يكون قد ظل حيا لحد اليوم نتيجة للأزدهار العلمي وتطور الطب وتقدم العناية الصحية . كنا سنفخر بين الامم بان مدة حكم ملكنا هي الاطول على مدى التاريخ لانها وصلت الى 75 سنة لو اخذنا بنظر الاعتبار انه اصبح ملكا في الرابعة من عمره . كما ان من المرجح ايضا ان تكون زوجته الأميرة فاضلة (التي لابد وان تكون قد اصبحت ملكة) حية هي ايضا الى الان خصوصا وانها تصغر مليكنا بحوالي خمس سنوات . ومن المرجح ان يكون قد اصبح للملك ابناء وبنات عديدين , وربما كان سيكون قد انجب ابنه البكر الذي سيكون ولي عهده في عام 1960 او عام 1961 , وربما كان سيكون اسمه حسين او غازي الثاني . تخيلوا معي صورة للملك فيصل الثاني ملك العراق مع زوجته الملكة فاضلة وبعض اولادهم وهي تزين دوائرنا وشوارعنا , وحتى بيوتنا .

 

 

2-    وعلى المستوى المادي كان العراق سيكون اغنى دولة في المنطقة , وكان يمكن ان لا تصل الى مستوى غناه لا السعودية ولا الكويت ولا الامارات ولا قطر ولا اي دولة شرق اوسطية اخرى لانه يمتلك عدا النفط والغاز موارد اخرى لا تلملكها هذه الدول . بل كان من الممكن ان يكون العراق قد اصبح واحد من اغنى عشر دول في العالم وكان سيضاهي بغناه اليابان والمانيا والولايات المتحدة الأمريكية . ان ما يدفع الى مثل هذا الاعتقاد هو ان العائلة المالكة كانت عائلة نزيهة لم تفكر ابدا في الاثراء على حساب الشعب , كما ان النزاهة والامانة كانت هي الصفة العامة التي تتبع في اختيار كبار الموظفين في الدولة من رؤساء وزارات ووزراء ومدراء عامين وغيرهم . ان ما يؤكد هذا انه لم تثار قط على الحكم الملكي في العراق الذي استمر لمد 38 عاما اي قضية استغلال او سوء تصرف بالمال العام . كما ان المال العام كان يصرف بعناية وفي الاتجاهات المدروسة ولا ينفق فلس واحد ان لم يكن يدفع باتجاه تطوير البلد وتحسين قدراته والدفع نحو ازدهاره . وبناء على هذه الامكانية كانت مدخولات الفرد العراقي ستتطور وترتفع حتى تصل الى مستويات عالية تضاهي مدخولات الفرد في اغنى دول العالم . وكان يمكن للعراقي بأن يصبح شخصا غنيا لمجرد انه عراقي لان السياسة التي اتبعت في العهد الملكي كانت مبنية على أساس (العراق أولا وأخرا) . كان من المستحيل ان يبقى أي عراقي بدون سكن لائق به , وبدون مورد مالي يمكنه من العيش بحياة لائقة ومرفهة . وكان هذا الغنى لابد وان يدفع الملك فيصل الثاني الى اعادة بناء الجنائن المعلقة كما ظل يحلم طيلة حياته في اعادة بنائها .

 

 

3-    وبناء على هذا التطور المادي كان العراق سيصبح على المستوى السياسي دولة أمنة ومستقرة ومرفهة وذات قيمة كبيرة وتحتل أهمية لا يستهان بها . كان كل الناس سيتمنون لو كانوا عراقيين وستصبح جنسية هذا البلد واحدة من اكبر الامنيات التي يتمناها اي انسان . كانت جيوش الباحثين عن عمل ستتدفق على البلد بلا هوادة , وسيكون الحصول على اقامة او اجازة عمل في العراق من اصعب الامنيات . كما كان يمكن ان تكون المطارات في العراق واحدة من ازحم المطارات في العالم لكثرة المسافرين الى هذا البلد الغني والمستقر . وبالمقابل كان سيصبح العراقي بعد ان تطأ قدمه في أي بلد اجنبي شخص مرحب به للغاية وسيجري منحه سمة الدخول في المطارات العالمية بدقائق . من ناحية اخرى فان نظام الحكم الديمقراطي البرلماني كان سيستمر سائدا في البلد ويقوى مع الايام وتترسخ قواعده . كما ان العلمانية العقلانية التي تقدس كل الاديان وتحترم جميع العبادات كانت هي ايضا ستستمر لانها حتما انفع الى بلد فيه الكثير من الاديان والطوائف والأعراق والمعتقدات . يكفي القول بان العراق سيكون بأمنه واستقراره وغناه افضل من السويد والنرويج والنمسا وغيرها من الدول التي تتقدم قوائم افضل الدول بالعالم من ناحية المعيشة والدخل والرفاهية .

 

 

4-    وعلى المستوى الامني والعسكري كان العراق سيصبح واحدا من أئمن المناطق في العالم لأن حلف بغداد الذي طعن في جدواه وشرعيته كان سيستمر وبوجوده ووجود اكبر قوتين في العالم فيه هما الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا كان سيبقى العراق محميا بقوة ممتلكا درعا فولاذيا يجعل من المستحيل في ان تفكر اي قوة بالأعتداء عليه . ما كان العراق سيحتاج الى جيشا هائلا يصل تعداده الى الملايين كما حصل لاحقا , وما كان سيحتاج الى انفاق ثروات طائلة من مدخولاته على التسلح كما فعلت العهود الجمهورية , لكن كان سيكون له جيشا متوسطا في تعداده وفي نفس الوقت قويا بما يكفي لترسيخ امنه الداخلي وتوفير الامن الاقليمي له .  ما كان العراق ليمر باي حرب وما كان له ان يخسر الملايين من زهرة شبابه في مغامرات لا تنفع دفع باتجاهها المغامرون والمرضى النفسيون . وما كان لمدنه في ان تدمر وحضارته لأن تتحطم نتيجة للسياسات الهوجاء التي لا طائل منها . كان العراق سيبقى بمنأى من كل الصراعات الاقليمية والدولية ولن يطاله ارهاب ولا حروب اهلية ولا صراعات طائفية ولا وطنيات زائفة تطبل وتزمر والنتيجة هي الانحدار الى الهاوية والى الحضيض . كل ذلك كان سيتحقق بفضل السياسات الحكيمة التي دأب على اتباعها الرجال المخلصين من اتباع العهد الملكي .

 

 

5-    وفي ميدان الانتاج النفطي كان سيكون العراق حتما واحد من اكبر منتجي النفط بالعالم , وربما كان سيفوق مدى انتاجه اليومي من النفط في زمننا هذا 10 ملايين برميل . ان ما يدفع الى هذا الاعتقاد هو ان العراق كان اول دولة تنتج النفط على المستوى الصناعي والتجاري في المنطقة , كما ان مستويات انتاجه عام 1958 والقفزات التي حققها خلال عقد الخمسينات تدفع بقوة الى مثل هذا التصور . نفس الأمر كان يمكن ان يكون بالنسبة للغاز الطبيعي الذي ربما كان سيتحول بعد فترة قليلة الى حنفية اخرى تدر العائدات للميزانية العراقية لتستثمر بما فيه رفاهية الشعب العراقي وازدهار بلده , بدل ان ظل يحرق ويهدر منذ اكثر من 70 عاما . كان العراق يمتلك كل المقدرات التي تدفع باتجاه الاستغلال الأمثل لهذا الثروة من كوادر علمية وهندسية وعاملين . كان العراق سيستعيد سيطرته على ثروته النفطية بالطرق السياسية المدروسة كما كان يفكر بهذا المرحوم نوري السعيد الذي بدأت الحقائق تتكشف بانه اول من وضع مسودة القانون رقم 80 الذي نسب لاحقا الى العهد الجمهوري الاول .

 

 

6-    اما على المستوى الزراعي الذي كان متطورا اصلا قبل سقوط النظام الملكي عام 1958 , فقد كان يمكن للعراق في ان يستمر بالتطور فيه وتتصاعد امكانياته في هذا المضمار ويتوسع بالزراعة ليصبح ربما سلة غذاء المنطقة كلها . كانت نظرة النظام الملكي للبلد تنصب على كونه بلد زراعي اولا واخيرا ويجب ان يبنى ويطور على ضوء هذه الحقيقة الثابتة . ان اتهام النظام الملكي بانه كان الظهير الحامي للأقطاع هو اجحاف كبير لذلك النظام لان الأقطاع كان موجودا بالعراق منذ ايام الدولة العثمانية ولم يكن هو الذي اوجده ابدا . كما ان السياسات الفاشلة التي اتبعتها العهود الجمهورية في انظمة الأصلاح الزراعي التي شرعت وطبقت لم تكن البديل الافضل لانها ادت الى القضاء على الزراعة في هذا البلد وتحويله الى صحراء قاحلة بعد ان كان بلدا منتجا ومصدرا للمواد الزراعية بكل اشكالها . لذلك فقد كان من المحتم بان اصلاح احوال الفلاحين كان سيتم بطريقة اخرى تضمن تطور الزراعة وفي نفس الوقت ترفع الحيف والظلم الذي فرضه النظام الأقطاعي عليهم . ان هذا كان سيتم حتما لسبب بسيط هو ان العالم كان كله سائر باتجاه تحقيق الحرية وتطبيق حقوق الأنسان في كل انحاء العالم ورفع القهر والاستعباد عن البشر . لهذا فان من المستبعد في ان يكون وضع الفلاحين قد استمر على ما كان عليه , ومن الاكيد بان الخطط كانت ستوضع لاعادة كرامة الفلاح العراقي وتطوير ظروفه المعيشية بما يتناسب مع المكانة التي سيصلها البلد , وفي نفس الوقت تطوير الزراعة وزيادة الانتاج ليصبح العراق مصدرا لكل انواع المنتجات الزراعية واللحوم والمواد الغذائية. كان العراق سيصبح برمته جنة خضراء منتجة , وكانت مشاريع الري واقامة السدود وشق القنوات ستنتشر بكل ارجاء البلد . ان من الاكيد بان مستويات انتاج البلد في كافة انواع المحاصيل والأثمار كانت ستصبح الاولى على مستوى المنطقة .

 

 

 

 

 

7-    وعلى المستوى الصناعي فأن العقلية الملكية كانت تدفع دائما باتجاه تطوير البلد في المجالات الصناعية التي يستطيع البلد النمو والتفوق فيها , لذلك كانت تشجع على اقامة وتأسيس المشاريع التي تتوفر موادها الخام في البلد . كانت هذه العقلية الحكيمة تبني تصورها على ما موجود ولا تؤسس لصناعات فاشلة يجري ايضا استيراد موادها الأولية والخام من الخارج كما جرى لاحقا في العهود الجمهورية . وبناء على هذه العقلية كان مجلس الاعمار يخطط لبناء مشاريع تتوافق مع هذا التصور مثل بناء معامل السمنت وصناعة السكر والزيوت النباتية وصناعة النسيج والأقمشة وانتاج الملبوسات والصناعات الغذائية ومنتجات الألبان واللحوم وغيرها . لذلك كان يمكن للعراق لو دام الحكم الملكي فيه ان يكون البلد الاول في المنطقة في تجهيز هذه المنتجات الصناعية التي يعتمد على انتاجها على القدرات المحلية . كان التقدم بمثل هذه الصناعات والتطور بها سيمكن العراق من السيطرة بها على اسواق المنطقة واحتكارها لمصلحته , وكان هذا يمكن ان يكون كافيا لان يدر للبلد موارد مالية لا تقل عن موارده من تصدير النفط والغاز .

 

 

8-    اما في مجال التطور الحضاري والمعماري فيكفي ان نرى ماذا حقق العراق من تطور وتقدم خلال عقد الخمسينات في الوقت الذي كانت معظم دول المنطقة لازالت تعيش في اوضاع متأخرة لكي نتصور كيف سيكون حال محافظاته ومدنه في وقتنا هذا . ما كانت المدن العراقية لتكون مختلفة او اقل في مستواها من مدن امريكا والدول الاوربية العريقة في مستويات تطورها الحضاري والمعماري . اما مشاريع السكن فكان حتما سيبنى المئات منها وكانت ستتطور وتصبح مواكبة لما يجري في العالم من نهضة وتقدم . نفس الامر كان سيكون في مجال التطور الحضاري والاجتماعي للأنسان , فالتعليم كان سيتوسع ليشمل كل شرائح المجتمع , والامية كانت حتما ستزول تماما من العراق . والتطور الصحي كان سيستمر في وتيرته التي كانت ماضية في بناء المستشفيات الحكومية وتوفير العناية الطبية مجانا في جميع المدن العراقية . كما ان العناية بالبيئة وتهيئة الظروف الصحية السليمة وتطوير حياة الانسان  سيكون هو الاخر يشغل حيزا بارزا من عقلية اي حكومة تحكم البلد . 

 

 

خاتمة

 

أي جنة غناء هذه التي حرمتنا منها الثورات الكارثية التي جائتنا بوطنيات زائفة وبشعارات تافهة حولت البلد الى جحيم لا يطاق وجعلت العراقي بدلا ان يمتلك قصرا ومزرعة وسيارة وخادمة وسائق استنادا الى امكانيات بلده لا يمتلك غير خامة سوداء يخط عليها كلمات ينعى بها ابيه او اخيه او ابنه , ومقابر تكثر شواهدها وتتوسع اراضيها  يوما بعد يوم . وأي حلم جميل حوله لنا رجال مهوسين بالسلطة وابطال مغامرين ومرضى نفسيين وقادة طائفيين الى كابوس مدمر يخيم على صدورنا فيكتم انفاسنا ويقضي على ما تبقى فينا من كل رغبة بالحياة في بلد اصبحت جموع الفارين منه تشكل قوافل لها اول وليس لها أخر . واأسفاه على بلد ضيعه ضباط مغامرين , وواحسرتاه على شعب لا زالت معظم جموعه لحد اللحظة لا تقدر من الذي كان فعلا يريد الخير له . اللهم ارحم ضحايا مجزرة 14 تموز والحقهم بالصالحين ولا حول ولا قوة الا بالله . 

 

 

 

وسام الشالجي
2014/8/4