مكتبة الكونغرس العربية
د.هشام العلي
زرت مكتبة الكونغرس لأول مره في عام 2011 م ولكي احظى بامكانية استعارة الكتب وقراءتها فلا بد من استخراج بطاقه للمكتبه التي
لم اكن قد حصلت عليها بعد
" لا عليك . فالأمر لن يستغرق منك الا 10 دقائق "
قادني كبير حفظة الارشيف الى ممر خاص من مكتبة الكونغرس العربية ، يتم من خلاله العبور الى المبنى الاداري للمكتبه في الشارغ المقابل ...
ولكن من تحت الارض .. كان كبير حفظة الارشيف لمكتبة الكونغرس العربيه مصري قبطي في الثمانيين من عمره . نشط ومتفائل ومبتسم ، كأن سنين عمره
توقفت عند شبابه عملا ، وزادته رصانة وحكمة في عقله . نزلنا عن طريق المصعد الالي لنصبح تحت الارض ثم اتجهنا يسارا
" لقد اكرمتني ، فقمت بواجبك واكثر . ارجوك فقط الى هنا "
" كما تشاء . في نهاية الممرهذا ، تكون قد تجاوزت عرض الشارع . فاستخدم المصعد مرة اخرى "
عندما فتح باب المصعد اصبحت في مبنى المكتبه الاداري . وبعد 10 دقائق حصلت على البطاقه التي تستمر صالحه حتى سنتين من عمري
اذا كنت حيا طبعا .
مكتبة الكونغرس العربيه تقع في مبنى جيفرسون التاريخي ، خلف مبنى الكابيتول ، ولان مبنى الكابيتول وقبته يعتبر من اشهر معالم
واشنطن .. فيحرص كثير من السواح والزائرين ان يزوروا مبنى جيفرسون ايضا . وبالتالي المكتبه العربية للكونغرس والذي يقدر عدد الزوار اليها
بأكثر من مليون زائر سنويا.
جيفرسون هو الرئيس الثالث للولايات المتحده الامريكيه وكاتب دستورها ، فتبرع بكامل مكتبته الشخصيه الى مكتبة الكونغرس فسمي المبنى باسمه "
مبنى جيفرسون "
دفعني للذهاب الى المكتبه رواية " رصاصه واحده تكفي " لكاتبها الصحفي الجزائري الكبير رابح فلالي .. ذلك الروائي الاديب .. الذي وثق لأهم
حدث تاريخي في تسعينيات القرن الماضي ... فوز الجماعات الاسلاميه في انتخابات الجزائر.. لكن الحكومه رفضت الاعتراف بهذه الديمقراطيه للنتائج
.. فسالت الدماء وانتشرت الجثث . فكانت اعظم المأسي الانسانيه ، استخدمت فيها الاسلحه الناريه في ابشع صورها ، فذبح الشعب الجزائري باسم
الحرية والديمقراطيه مذبحة عظيمه . فاصبحت ارض الجزائر اكبر مقبرة في العالم ، يمشي فيها كل الناس .... من شيخ ، وشاب ، وعسكري ، وموظف ،
وصحفي ، وامرأه ، ورجل .... ولا حتى الاطفال الرضع استثناء ... لا يعرف احدهم اين ومتى سيكون قبره .. رصاصة واحده تكفي لتحدد مكان وزمان
امتلاكه لقبره على الارض .. فالشارع مكان للقبر ، وامام باب دارك قد يكون هناك قبر ، بالقرب من المصانع مكانا للقبور، وبجوار مبنى العمل
الحكومي نصيب من قبور ، وعند الحدائق العامه تتزايد القبور.
سباق بين كل شبر من ارض الجزائر لنيل اجساد بلا ارواح . لا يهم ما السبب ! ولا يهم من تكون ! ولا يهم لأي جهة تنتمي !.. كل ذلك لا يهم . فما
دمت روحا وجسدا تمشي ... فأنت هدفا لرصاصه .
يصيح احدهم بصوت عالي
" هنا شهيد " لا " بل مجرم كافر. دعوه طعما للكلاب "
رأى المراسل الحربي ما لم يراه هذا العالم ، فنقل الرساله
" عمق المأساة ان اقصى الامنيات ، الوجود فوق الارض ... الحياة فقط ... ولو كنا امواتا "
في حين كان العالم يشهد اعلى درجات التقدم المعرفي الالكتورني والفضائي ، من اجل خدمة القيم الانسانيه والحضاريه . اصبح
العالم غرفه صغيره بعدما كان قريه صغيره ، عالم الانترنت والقنوات الاعلاميه الفضائيه. عالم تدفقت من خلاله صور المعارف والعلوم الانسانيه ،
ورتسمت فيه عادات وثقافات الشعوب باحسن الصور، وكبرت من خلاله احلام للاطفال الى عوالم ما رأوها ، وعوالم ما سمعوا عنها ، كما مدت اعناق
بالأمل ... الى حضارة قيمها العداله والحرية والانسانية . وحدها الجزائر تسبح في برك من دماء ، يوم وبعد يوم تنمو وتكبر ... حتى كادت ان
تلتقي حلقاتها . فاين الحقيقة ؟ وماهي الرواية ؟
ذهبت الى مكتبة " الحكمة " في منطقة " فولس شرش Falls Church"
من اجل الحصول على نسخة من الرواية . فكانت الاجابه
" جميع النسخ نفذت خلال شهر "
يا الله !. هذا معناه ان لاتوجد نسخ من الرواية للبيع في امريكا . فمكتبة الحكمة اكبر واشهر مكتبة عربية . فهي احد اهم روافد ومصادر تمويل
مكتبة الكونغرس العربية ، بأهم العناوين والاصدارات للكتب العربية التي تصدر من منطقة الشرق الاوسط والعالم .
قمت بعد ذلك بعمل اتصال هاتفي
" الاستاذ رابح فلالي . انا ابو الحسن السعودي وافخر بأن اقتني روايتك . كتب عنها الكثر واعتبرت وثيقه تاريخيه وتحفه ادبيه عن الجزائر "
" ابوالحسن السعودي ياطيب. اشكر ثناءك الذي لا استحقه .. للاسف لا توجد نسخ متوفره لهذه الرواية في المكتبات ، لا في شرق الارض ولا في غربها
، على حد علمي "
" اذا اريدها هدية منك ، اذا سمحت . يجب ان احصل عليها "
" حتى انا لا املك نسخه من الرواية ، مكتبة الكونغرس العربيه تملك نسخه وحيده ملكا مشاعا للقراءه "
ثم اتبع رابح فلالي كلامه
" ولكن هذا قلبي ودمي هدية لك ، بهما كتبت الروايه "
" شكرا شكرا هذا من لطف كرمك ، ولكن عدني ان نلتقي يوما ما "
" اعدك سنلتقى يوما ما ياطيب "
كان كان الروائي رابح فلالي يرى كل الناس ، وكل الوجوه بالطيب .. من عرفهم ومن لا يعرفهم . من كان التقى بهم ، ومن لم يلتقي بهم ... كان
يسمهم بالطيب ، لأن الطيب وحسن النية ، هي ما افتقدته الجزائر في تلك المرحله التي سالت فيها الدماء انهارا على الطرقات .
قررت بعدها الذهاب الى مبنى توماس جيفرسون لزيارة مكتبه الكونغرس العربيه ، ذلك المبنى المكون من الخارج بالحجاره المستطيله الحفر ،
والاعمدة المرخمه ، والدرجات صعودا ، وتماثيل مجسده تتأملها العيون وتتسائل عنها العقول . صرحا ثقافيا هو الاجمل في الولايات المتحده
الامريكيه ، وفي الداخل جداريات مرخمه ، وارضيات ملونه ، ورسومات في قبب ، هندسه معماريه ، مزخرفه بالفسيفساء والالوان والرسومات ... يستحضر
الزائر فيها عمق تطور الفن الحضاري المعماري الانساني .... يدهشك ...يدهشك .... حتى الروح ، فتنجذب الى العيون البهجه ، كما جذبت المخطوطات
النادره ، وكنوز المعرفه الثمينه الى عقول الزائرين ... فتتلى صلوات القراءه في المكان منذ عام 1897 م وما انقطعت حتى يومنا هذا .. وكانت
مكتبة الكونغرس الامريكيه قد تأسست في مبنى الكبيوتل عام 1800 م قبل استحداث المبنى الحالي
بعد ثلاثة ايام ، رواحا ومجيئا لمكتبة الكونغرس العربية ، اقضي جزء من الصبح حتى الخامسه عصرا ، قضيت فيها وقتي وصلاتي
ومحياي ، حتى انهيت الرواية . ولكن بدأت قصة اخرى ، ورواية هي اطول تاريخا ، تلك القصه التي ابتدأت قبل 1435 سنة ، واظنها ستنتهي عند
القيامة " "وما اظن الساعة اتية "
بدأت رحلتي عن اعظم فترة .. تلك الفترة التي تتغير فيها سلوك
البشر ، متجاوزة حدود الدول ، ومتجاوزة العرق ، ولا تعترف باللغات .. تتوحد فيها السلوك... فتتدفق الاموال عبر البنوك ، وتنتقل الاموال من
يد الى يد ، تنتقل بالخفاء واحيانا بالعلن ، احيانا بالليل واحيانا بالنهار . .. عن رحلة تنتقل الاعمال فيها من الارض الى السماء ، وملايين
العيون والأكف ممدودة الى السماء ... رحلة تتحدث عن الارواح التي تسكنها الطمئنينه ، والخشوع ، والامان ، فيها ملائكة من الرحمه تتنزل من
السماء على الأهل الارض ، وايات تتلى من اهل الارض في الثلث الاخير من الليل ، فتصعد بها ملائكة السماء ... رحلة عن شهر رمضان الكريم