فان الاعتقاد القديم القائل عن علاقة العقل والمادة ان دراسة الدين يجب ان تكون من الاهتمامات الكبيرة للأنسان المثقف اننا نريد دينا يجعلنا نحس بمسؤولياتنا البشرية.
|
هل الدين ضرورة بشرية للإنسان؟ الحلقة 2 آراء الكاتب بقلم الدكتور رضا العطار ridhaalattar@yahoo.com
فهنا اتسائل واتشبث بكل وسائل البحوث الفلسفية والسيكولوجية والعلمية، كي تساعدني على ان استوعب واقتنع واؤمن واتدين. ان البيولوجيا اليوم بدأت تنتقل من النظر المادي الى النظر الروحي وتجعل الحياة اصلا والمادة تبعا. وكثير من العلوم الطبيعية قد خرجت من الجبرية المادية الى الحرية الحيوية حتى جعلتنا في حيرة من امرنا، نتأمل سر الكون ونبقى نتأمل دون نتيجة. كيف يعمل هذا اللغز الماثل امامنا ؟ لا نعلم. فكهارب الذرات في المادة تسير وتسلك في حركاتها مسلكا حرا لا يمكن التنبؤ بها، كأن لها ارادة خاصة. فليست الذرات الآت ميكانيكية تجري على اصول مفروضة وقواعد مقررة وانما هي في حركاتها تلمع الى الحياة لا الى الجماد كما كنا نتوهم.
الحقيقة ان وجود حدود الزمان والفضاء يكاد يضطرنا الى التصور ان هذا الكون وكأنه عملا من اعمال الفكر.... والزمان والفضاء اللذان جرى فيهما هذا الفكر يجب ان يكونا قد وجدا كأنهما جزء من هذا العمل.... ومعارفنا المكتسبة تدفعنا الى القول ان هذا الكون العظيم لا يبالي بالحياة بل هو يقف منها موقف الضد.
انا لا اذكر العلم كي اجعله اساسا لأيماننا. لأن العلم وحده لا يكفي. وذلك ان مصدر الايمان يجب ان يكون البصيرة وليس العقل. والعلوم هي نظريات تحتاج الى براهين. ولكن الايمان يحتاج الى شئ من الجزم. واننا حينما نجزم بالشئ بمعنى اننا نريده. وهذه الارادة التي نجدها في انفسنا للأيمان تعبر عن مزاج التدين الذي هو طبيعة نفوسنا والذي يجعل من الدين ضرورة انسانية تخدم راحتنا النفسية عند القلق وتلهمنا الاحساس بالسعادة والتفاؤل والاستقرار.
ولكي نبين الفرق بين النظر العلمي اي النظر العقلي والنظر الصوفي، اي البصيرة. علينا ان نضرب مثل التطور. فعن طريق العقل والعلم لا نستطيع ان ننسب رقينا الى التطور، لاننا لا نستطيع مثلا ان نقول ان الانسان ارقى من النملة. فقد تعيش النملة في تنازع البقاء ويموت الانسان. وقد ظهرت في الازمنة السحيقة حيوانات، عاشت ثم انقرضت مع ان النمل لم ينقرض، لكنني هنا انظر نظرا صوفيا ببصيرتي واجزم (جزما غير علميا) بان التطور هو الرقي واني انا ارقى من النملة. وهذا النظر يزيدني تفاؤلا في الحياة وسعادة في الايمان ويشبع في نفسي غريزة التدين.
فلكي تستقر شخصيتنا ويزول عنا القلق يجب ان ننظر نظرا صوفيا يعمل لطمأنتنا الروحية، ونظرا علميا يعمل لصحتنا الجسمية. ولن يستغني احد النظرين عن الاخر. واذا نحن اقتصرنا على واحد منهما شعرنا بالنقص وما يتبعه من قلق وشقاء.
اني اقدر النزعة العلمية وادعو اليها. ولكن قيمة العلوم انما تنحصر في خدمة الغايات الانسانية السامية التي نسميها غايات روحية والتي نشعر في اعماق نفوسنا ان العقل ليس وسيلتها وانما الوسيلة هي البصيرة. ولذلك يجب ان نجعل عقلنا يخدم بصيرتنا كما نجعل علومنا تخدم صوفيتنا.
نحن ناخذ الدين عن ابوينا تقليدا ونعيش في حياتنا وبعض شبابنا ونحن نستند الى الدين التقليدي بمعونة الابوين. ولكن التكشف الديني للرجل المثقف يحتاج الى سنين عديدة من الاختبارات الدنيوية ودراسات مختلفة وتغييرات نفسية متوالية. وحوالي سن الخمسين نجد ان ما ورثناه من عقائد ليس شيئا يالمقارنة بما اكتسبناه من بصيرة دينية. والتي هي ثمرة الحياة الفهيمية على الارض خلال نصف قرن او اكثر.
وقد تؤيد هذه البصيرة بعض العقائد او لا تؤيدها ولكن محال ان يبلغ الانسان المثقف هذه المرحلة من العمر دون ان يكون قد عاش حياة الجد والمثابرة الثقافية مع الفهم الاصيل ثم يجد نفسه بعد ذلك بلا دين. طبعا هناك كثيرون من البشر يعيشون حياتهم بدين ورثوه، ولم يبحثوه قط بالنقد والتمحيص، وهذا الدين هو الدين العرفي الذي علق عليه احد المؤمنين قوله : اللهم الهمني ايمان العجائز. وهذا الايمان في نظره سيؤدي به الى السعادة الاجتماعية.
وقد يسأل القارئ بعد هذا : ما هو الدين الذي تقصدونه ؟ فأجيب بان الدين هو خلاصة الثقافة التي حصلنا عليها الى جانب اختباراتنا الدنيوية طيلة العمر كله. وهي التي تعين لنا موقفنا واتجاهنا في الحياة، فهو ضميرنا وبصيرتنا وهذا هو الدين الحسن. فديننا الاسلامي الذي ورثناه و درسناه وفهمناه وادركناه عن طريق العقل، وبفضل الوسط الحسن الذي عشناه و الذي الهمنا ثقافة عصرية انسانية، هو دين عالمي يدعو الى خير البشرية جمعاء، كما يدعو الى المحبة والسلام .
الى الحلقة القادمة |