Back Home Next

 

الكلمة  والبناء الحضاري
آراء الكاتب

د.  عبد الجبار العبيدي

Jabbar44@verizon. net

يقول القرآن الكريم:

"كلمة طيبة خير من صدقة يتبعها أذىً

وهي لفظة جمعها كلم،  تذكر وتؤنث،  وهي تقع على الحرف الواحد وعلى عدة حروف وعلى قصيدة شعرية اوخطبة دينية اوسياسة كاملة.  والكلمة صعبة على قائلها ففيها يحدد الموقف وتحترم النفس او تهان، لذا قيل "ان الكلمة امضى من السيف". لقد اهتم اللغويون بالكلمة وقائلها ووضعوا لها شروطا كثيرة  للبحث والحديث والمخاطبة حتى لا تستغل الكلمة للاساءة او المديح الذي لا يستحب. واهتمت المجامع اللغوية بها وبتهذيبها والارتقاء بها بعد ان تعددت الحاجات في استخدامها، وأعتبروها ثمرة حضارية اذا جربها الانسان في الاستعمال الصحيح، وعرف فائدتها وتعلم كيف يصنعها اذا اراد لها اثراً في حياة الانسان وهو جزء من هذه الحياة. ومن المؤكد عند علماء اللغات ان اكتشاف الانسان المبكر لها كون الخطوات الاولى في المسيرة الحضارية. لذا ادخلوا على استعمالها ضوابط كثيرة حتى لا تنحرف عن اهدافها النبيلة. من هنا عدت الكلمة هي التاريخ وهي الحضارة وهي العقل وهي الحياة، وصدق القرآن حين وصفها بالطيبة لان كلمة الطيب تعني نقاء النفس الانسانية من الشوائب والادران.

 

وبالكلمة العقلانية  تصرف الانسان واستطاع التغلب على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكله كيف شاءت،  ولهذا بقي الانسان على هيئتة وخصائصه الاف السنين وبقيت الكلمة هي الاساس في فكره وعقلة وكل منجزات حياته فبها يعبر وبها يحقق وبها يصل الى ما يريد، حتى اصبحت ظاهرة انسانية عامة.

استطاع القرآن بها ان يحدد مسارات البشر، واستطاع الانبياء ان يكتبوا وصاياهم ودساتيرهم للناس، وبها الان تنظم اسس الحياة المجتمعية لكل الناس.

ومن استطاع ان يستثمرها استثمارا علميا وصل الى غاياته وحققها، ومن لم يستطع تخلف وانزوى.

ان جميع الاساليب التي مارسها الغرب ضد نهضة العرب وتغلب عليها قدمت الدليل على شدة وعي الغرب للكلمة واستثمارها علميا وادبيا، حين جعلونا بنظر الاخرين أمةً شاخت واستهلكت  وفشلت في تحقيق اهدافها النبيلة التي جاء بها القرآ،  الكريم.

 

ان المسح العلمي الشامل للوطن العربي ارضه ومجتمعه، لايزال هو الهدف الاخطر الذي يتحدى صميم حضارتنا المعاصرة لانه يؤلف الاساس الاول لكل استراتيجية موضوعية نتطلع اليها، لخدمة مخططات التغيير المتكاملة المدروسة.  فهل سنستطيع توظيف الكلمة لصالح التغيير ام تبقى كلمتهم هي الاقوى.

ان وحدة المعالجة، تساوي وحدة المواجهة، والوحدتان موقف علمي اساسي ينمي استراتيجية التغيير والبناء، التي تنطلق من ارض الواقع الذي نحياه اليوم، الى ارض الواقع التاريخي الموعود والمتصل عضويا بفاعلية التحليل وابتكار الحلول وتحقيقها باعتبارها الخيار التاريخي الوحيد امام وحدتنا ونهضتنا الحاضرة والمستقبلية.

ان استخدام الكلمة العلمية الواقعية هي اول خطوة على طريق معرفة الذات كما استخدمها محمد (ص) لاول مرة مع العرب مرددا ما قاله القرآن:

"واذا قلتم فأعدلوا ولو كان ذا قربى"

فتشت في كل قواميس الامم لم اجد نصاً سبق هذا النص في العدالة. فاذا  كانت علوم الغرب في عصور نهضته سبيلا الى امتلاك الثروات وامتصاص خيرات الشعوب المتخلفة، فان ثروات العرب بتوجيه كلمات قرآنهم ورسولهم  هي امضى واحسن لتعبيد طريق ممهد لقيام مؤسسة العلم وبناء الحضارة والصدق في القول والعمل، ولا يتأتى لنا ذلك الا بتغيير المناهج الدراسية للاجيال الحاضرة والقادمة،  حتى يعوا عدالة السماء مجسدة في عدالة الارض، ونصيحة لمن يكتب بالكلمة اليوم عالم او كاتب او رجل دين خاصة في عراقنا الحبيب الممزق، ان ينفض  يديه من الماضي ويضعها خلف ظهره ويتفحص الكلمة القرآنية حقأ وحقيقة سيجد اننا لم نتخلف الا حينما استخدمنا الكلمة استخداما عكسيا كما ارادوها لنا الاخرون وابتعدنا عن كلمة القرآن العادلة او زيفناها.  وبهذا التوجه الصحيح سنربط الفكر والعقل والعلم بالتنمية وبالانسان وتطوره وبتصور علمي واستراتيجي لنخلق مشروع حضارة تعادل مطامح التغيير لدى اجيال الامة الصاعدة.

 

ان اقتراح مشروع حضارة عربية اسلامية جديدة تعادل مطامح طلائع الامة الواعية، لا يتأتى من تصور مُثل اخلاقية او مبادىء سياسية مجردة فحسب، ولكن تتأتى من مشروع واقعي لتغيير البنية الفكرية والمادية للمجتمع، ونقلة من المرض الى الصحة ومن العوز الى الرفاه ومن الخوف الى الامان ومن الظلم الى العدل ومن الفرقة الى المساواة ونرمي خلف اظهرنا كل ما ارادوه لنا من فرقة مذهبية اودينية او عنصرية لانهم هم المستفيدون ونحن الخاسرون. لذا علينا ومن واجبنا الاخلاقي دراسة قوانين المجتمع ومخزونه التاريخي وظروف تفاعلاته المعاصرة مع تحديات العصر المحيط به، وسبل ضبط هذه التفاعلات بما يخدم قضايا التحرر والتقدم الانساني في كل مكان ونبذ الاسماء التي تريد لنفسها البقاء دون الاخرين والحياة دون الاخرين والرفاه دون الاخرين. انهم اعداؤنا الحقيقيون الذي يجب علينا ازاحتهم واختراق الصعاب من اجل اجيالنا وشعبنا المكلوم.

 

ان اعادة تكوين الانسان في بلدنا وبناء مؤسساته الثقافية والفكرية والتربوية يجب ان يبنى وفق المعايير التي رسمتها عدالة السماء للانسان لامن اجل الانسان  الاناني الذي لايرى الحياة الا بعين واحدة. لدينا المال وهم يبعثرونه لهم وللاخرين، ولدينا الطاقة وهم يستنزفونها لهم وللاخرين ولدينا الكفاءة وهم مصممون على افنائها حتي يستمروا وكأن الحياة والدولة ما خلقت الا لهم وفي النهاية سينكفئون ويندمون ويتحسرون، لكنهم واهمون لانها تراثنا الحق الذي نحن به مستمسكون.

ومهما تواصلت الايام والشهور والسنين وتقدمت وسائل الاتصال، ستبقى الكلمة هي العماد في العملية الاتصالية في الخبر والمقال والتعليق والحقوق، فبالكلمة نزلت رسالات السماء وبها تواصلت فيما بينها الحضارات عبر القرون وعن طريقها تسعى وسائل الاعلام للتاثير على مستقبلها والاعلام برسالته يشارك التربية  بما يغرسه من قيم ومبادىء يرتكز عليها البناء الشامل، اذن فمفهوم التربية ورسالة الاعلام شيء واحد وهدف واحد والعلاقة بينهما لا تسير بخطٍ متوازٍ، لذا لابد من الانتباه للكلمة ومدلولها فبها نستطيع ان نحقق الامل، وليكن علماؤنا ومثقفونا وساستنا هم الرواد لهذا الاتجاه الحضاري المنشود. 

 

 

Back Home NextBack to Homego to top of page