ابن خلدون وعلم الحضارة الانسانية؟
آراء الكاتب
د. عبد الجبار العبيدي
jabbarmansi@yahoo.com
يحتل الفكر في كل امةٍ مركزاً طليعياً، ويعبر عن نفسيتها وتنعكس فيه نقاط الضعف والقوة فيها. فهو مقياس وجودها الحضاري.
وكلما كانت العقول الواعية للفكر الذي تستند اليه امة ناهضة اوسع، وكانت النتائج المتوخاة اقرب للتنفيذ بغض النظر عن الاستعداد الطبيعي للفكرة وللانتاج العلمي المطلوب.
ولذا فلنا ان نقول ان تاريخ اية امة من الامم هو تاريخ لفكرها ومنعطفاته قوة وضعفا.
ولقد احتاج العلم الاسلامي والاوربي سنيناً طويلة لكي تظهر شخصيته ةيستقل ويقوم علما كاملا له اصوله ومناهجه وقواعده.
لقد ولدت العلوم عند المسلمين منذ البداية مستقلة الشخصية واضحة الخصائص، وعلى نفس الاصول التي قام عليها علم الحديث، وهي الضبط والدقة والامانة وتحري الصدق، حين بدأوه بالسيرة
النبوية الشريفة، ولقد التزم الاخباريون الذين مهدوا لكتابة السيرة من امثال عروة بن الزبير نفس الاصول التي اعتمدها المحدثون الاوائل. لكن مانرى ونقرأ من اساطير فقد جائتنا من
التفسير (لاعتماد بعضهم على كتب الديانات الاخرى من يهودية ومسيحية وهي التي سموها بالاسرائيليات).
لكن دخول هذه الاسرائيليات لم يمنع من ان نقول ان علم التاريخ عند المسلمين ولد اصيلا. وتشابهت الحالة عند الاوربيين كذلك لكن دراسة التاريخ عندهم تطورت منذ
القرن السابع عشر الميلادي واصبح ثابت الاركان والقواعد حين اصبح مثل التاريخ الاسلامي يتناول معرفة التجربة الانسانية على الارض، فشمل الحدث السياسي والعسكري والتطور الاجتماعي
والاقتصادي والعلمي والفني. فاصبح المؤرخ يهتم ليس بالتجربة الانسانية على الارض فقط بل بكل تجارب البشرية جمعاء. من هنا اصبحت
للدراسات التاريخية والحضارية مكانة التكريم في هذا العلم الجليل.
واليوم سوف نتطرق الى العالم العربي ابن خلدون،
وهو من رواد علم التاريخ والحضارة. وسنحاول وبكل حيادية دراسة هذا العالم واثره في تقدم الحضارة الانسانية. ان اختياره كنموذح نرجو ان يكون اختيارا موفقا ومستوفيا لشروط المقالة.
ولنبدأ فنقول ان عبد الرحمن بن خلدون (808 ه- 1402 م) : هو صاحب كتاب المقدمة المشهور باسمه (مقدمة ابن خلدون) وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن
عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر. والمقدمة هي المدخل لكتاب العبر، وتعتبر مرجعا لا غنى عنه في مناقشة مسألة الحضارة. فقد حظيت الحضارة كأسلوب للحياة بقسط وافر من الاهتمام في
كتاباته التي تناول فيها بالدراسة والاستقصاء تاريخ الشعوب ونظرية الكائن الحي. والتي ركز فيها بصورة فريدة ومميزة عن كل من سبقه أو جاء من بعده من المؤرخين المسلمين على مختلف جوانب
الحياة ومظاهرها المتعددة في المجتمعات البشرية عامة، وفي عالم الاسلام بصورة خاصة.
ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا ان هذا المفكر العربي كان من المساهمين في الربط بين صناع الحضارة واهل المدن برباط وثيق حتى غدا لكلمة الحضارة عنده نفس مدلول العمران الذي يقوم بالاساس
على تمتع سكان المدينة بالقدر الاكبر من الثروة وبالنصيب الاوفى من السلطان وهي كما يرى ابن خلدون أهم واقوى الاسباب التي تساعد على تطور المجتمعات وتقدمها في مسيرتها الحضارية.
وقد تطرق ابن خلدون الى نظرية الكائن الحي حين شبه
الحضارة بالكائن الحي وطبق عليها قانون الطبيعة وناموسها، فذكر ان الحضارة تمر بمراحل واطوار كالانسان الذي يولد صغيرا ضعيفا، ومع الايام يشتد عوده وينمو جسده ويكبر حتى يبلغ
تمام النضج والاكتمال في سن الاربعين. وبعدها ياخذ البيان الحياتي بالهبوط شيئاً فشيئاً حتى اذا ما ادركته الشيخوخة بدا عليه مقدمات النهاية ثم الموت الذي يتعقب الهرم. وقد شاركه
العالم الالماني شبنكلر (1926) في هذه النظرية.
وهناك من يخطىء ابن خلدون في تشبيهه للانسان بالكائن الحي، باعتبار ان الانسان مخلوق واحد يولد ويمر بضرورة بمراحل محددة من العمر، فهو اذا فقد عضواً من
اعضائه مثلا لايمكن ان يسترده، وان الاعضاء في جسمه تعمل بتناسق دقيق، وان أي خلل في اداء هذه الوظائف يؤدي الى اضطراب الجسم كله وقد يؤدي بالتالي الى توقف الحياة عنده.
أما الجماعة الانسانية فتتألف من مجموعة افراد وكل منهم قائم بذاته وان اعتمد بعضهم على البعض الاخر، لكن هذه الرابطة في الاعتماد تكون رابطة خارجية، فموت الوالد مثلا لا يؤدي
الى وفاة الابن، والرضيع يمكن ان يستغني عن لبن امه اذا وجد البديل، كما ان الجماعة الانسانية تتجدد نتيجة لحركة المواليد التي تعوض الوفيات، وهكذا فالجماعة لا تمر بأعمار او
مراحل حياة فيها دائما اطفال وشبان وكهول وشيوخ، ناهيك من ان عمر الجماعة مستمر فهو يتالف من اجيال بالتتابع وهذه الاجيال غير متوازنة لا في تواريخ الميلاد ولا في مسرة التطور، واذا
نحن سلمنا جدلا بنظرية مرور الجماعة بالمراحل المختلفة التي ذكرناها سابقا، فعلينا ان نعتقد بأن كل أولاد الجماعة في مرحلة كهولتها يولدون شيوخا وهذا أمر لا تقره قوانين الطبيعة
والحياة ابدا.
ولابن خلدون نظرات اخرى في الحضارة منها
(ان الملك اذا ذهب عن بعض الشعوب في أمةً، فلا بد من عودته الى شعب اخر ما دامت لهم العصبية) ان اعتقاده هنا ينصب على ان الشعوب تتنافس على الملك والرياسة، فلا بد وان يكون
الفوز لفريق على اخر، وبالتالي ينفرد بالحضارة والنعيم فيغمس في الترف والملذات فيضعف حاله، فيتطلع غيره من اهل البداوة الى الملك والسلطان والرئاسة، وهكذا يحصل النزاع ويكون الامر
بالتالي للاقوى في المنازعة.
وبالنظرة الكلية لاراء ابن خلدون نراه يتصور ان التاريخ والحضارة دورة متصلة وصراع دائم على الملك والرياسة او ما يسميه هو بالمجد والشرف، فكل أمة تتطلع للحلول محل أمة اخرى في الملك
والرياسة والغنى والنعيم، وهكذا تستمر دورة التاريخ ودورة العمران. ولو تفحصنا الواقع الحالي في تنافس السلطة لرأينا صدق ما جاء به ابن خلدون.
ويشارك العالم (ول ديورانت) في كتابه القيم قصة الحضارة ابن خلدون في دور اهل المدينة بفكرهم وعملهم وفنونهم في صنع المدينة التي تطابق عنده مفهوم الحضارة
حيث يقول (ان المدينة في وجه من وجوهها هي رقة المعاملة ورقة المعاملة هي السلوك المهذب، ثم يقول نعم ان المدينة تبدأ في كوخ
الفلاح لكنها لاتزدهر الا في المدن). وهوهنا يشارك ابن خلدون في دور اهل المدينة في صناعة الحضارة.
وحين التمعن في نظرية ابن خلدون في الكائن الحي والحضارة نراه يشارك اخوان الصفا والقزويني في نظرتهم الى فكرة الشمولية والقوة النشطة المبدعة عند الانسان وفكرة تكامل الوجود البشري.
وخلاصة القول يعتبر ابن خلدون رائدا في مجال الدراسات الحضارية المحلية والعالمية معا. وله دراسات حضارية متعددة لا يسع المجال لذكرها الان.
Back
to Home