محطات في حياة الفنان عزيز علي
آراء الكاتب
مازن لطيف
18/12/2008
ربما لانغالي إذا صنفنا عزيز علي ضمن رعيل عراقي أسس لمشروع نهضوي ذاتي متعدد الإختصاصات والمواهب، وكانه شكل رد فعل معاكس لقرون الدعة وحرك نزعة للإنعتاق العراقي،
فكان من جرائها ان تتجدد حضاراته في الجغرافية رغم متغير التاريخ. وتجسد هذا الطموح في كل مناكب الإبداع من فنون وأداب وعلوم، وكاد ان يعيد للعراق مقامه الأزلي. بيد أن المؤامرة كانت
أقوى وأن أصحاب الشأن، شان عليهم الأمر فأجهض المشروع وشتت أو أهمل أهله.
لم يكن العراقي يعير مصدر الإعارة أهمية، تماشيا مع قدراته في موائمة القادم والجديد مع واقعه وخصوصيته. فالمونولوج طرق غربي للغناء،أقتبسه العراقي عزيز علي ، ويمكن أن يكون مشرأب الى
الجذر الشرقي الذي دعي عند الأسبان (طروبادور) الواردة من كلمة (طرب) العربية، او المطرب الذي ينقل هموم الناس ملحونا ودون قيود شعرية قسرية ،وهو ما يدعى لدى المغاربة اليوم غناء
(الراي). وكلمة (مونولوك monolog) تعني حوار مع الذات أو الخطاب الفردي أو بمعنى (الهذير). والكلمة معاكسة لكلمة (ديالوك dialog) التي تعني الحوار مع الآخر. وبالرغم من أن الكلمة وردت من
مصر الثلاثينات ويذهب البعض الى أنها تعود الى الفنان الشيخ سلامة حجازي، لكن فحواها يمكث حوار القلب للقلب، ومواساة هموم الناس وطرح عفوي وتبسيط دون تسطيح لمفاهيم عميقة. وهنا نشدد على
تلك الموهبة الفذة التي جمعت بين الشعر والتلحين والأداء لدى عزيز علي،والتي لم تتوفر إلا ما ندر لدى أصحاب المواهب. وطرقت الأهزوجة والمثل الشعبي والقصة والطرفة في حبكة شعرية مبسطة
مفهومة وجميلة من كل طبقات المجتمع، وكل يفهمه بحسب مستوى إدراكه.
وما تزال قصائد هذا الفنان المغناة حاضرة في الوعي العراقي بما ألتزمته من موقف
للمكارم وحملت في طياتها هموم الناس وآهاتهم اليومية. وتميَز عزيز علي بنقده اللاذع حد التهكم لسلبيات الواقع المرير الذي عاشه العراقيون، ولم يدخر جرأة ولا مبادرة في نقد الأفكار
والعادات المتخلفة وهاجم دون خشية مظاهر الدجل والشعوذة والإفتعال الزائف والتصنع، ولم يدخر وعيا لغويا ونفسيا إلا وجسده في تناول الامثال والجمل الشعبية البغدادية. لقد كان له موقف
سياسي نقد فيه جميع الحكومات المتعاقبة على العراق، ولم يتزلف أو يحابي كسبا للإمتيازات التي شاعت إبان العقود المتأخرة وسرى مفعولها اليوم، ودافع عن حق المواطن بالوجود وأرجع الأمر الى
السمتعمر وأذنابه، وكأن الحياة تدور دورتها كل مرة، بمهزلة أو تراجيديا كما قال أحد الحكماء.
كانت ميزة مونولوجات عزيز علي التجديد، والعضوية التي جعلها نافذة لكل زمان ومكان. ومن يسمعها أول مرة يضنها نقد لأيامنا الحاضرة، حتى تفاجأت الأجيال الصاعدة من قوة الرمزية و_(الحسكة)
الشعبية في جنباتها، بالرغم من تقادم الزمان عليها وإختلاف المفردات وإختلال المعايير الجمالية أو حتى زوغان المفاهيم الأخلاقية عن سالف عهدها. كل ذلك جعلها تسمع بشغف من طبقات الوعي
العراقي بعد سقوط الصنم ،و تناقلتها الفضائيات والإذاعات بما لمسته فيها من حمل للهم و متنفس للتضامن مع من يشعر بالغبن بعد عقود الطغيان. وهكذا شعر الناس بالسليقة ، مبدئية عزيز علي،
بما زاده أحتراما وشغفا بفنه.
تذكر أخبار العقود الخوالي بان اول مونولوج غناه عزيز علي كان ذو مغزى اجتماعي وموضوعه بسيط ولم يثر في حينها لغط عن فحواها، الذي تناولت موضوعة عادة "القبول" المنتشرة في المجتمع
المخملي لتلك الأيام، حيث كان النسوة العراقيات يخصصن يوم واحد في الاسبوع لاستقبال الضيوف، وأمسى طقس "القبول" عبارة عن جلسة نسائية تجمع خليطاً من الباكر والثيب، المتزوجات والمطلقات
.. الخ، بما جعلها مناسبة للتفريغ عن هموم النفس وتنفيس للخواطر التي أملتها عزلة البيوت وكثرة المشاغل والهموم.
ولد عزيز علي في بغداد محلة الشيخ بشار
عام 1911 ودرس في المدرسة الثانوية المركزية ودار المعلمين الابتدائية وعين كاتباً في دائرة الكمرك والمكوس عام 1927 قدم عزيز علي منولوجاته عند تأسيس اذاعة بغداد عام 1936 حيث
نظمها بالعامية ولاقت نجاحاً كبيراً لتناولها قضايا ومواضيع اجتماعية ووطنية بصورة لاذعة .. ونقلت خدماته بدعها الى وزارة الاعمار والى مديرية الاذاعة عام 1957 ةعاد مرة اخر ى الى وزار ة
الاعمار ثم عين ملاحظاً في السفارة العراقية في براغ عام 1960 ونقل بعدها الى تونس بعد سنتين وأنهيت خدمته لكنه عاد الى الخدمة بعد انقلاب 8شباط عام 1963 حيث عين في وزارة الثقافة
الارشاد وفي عام 1968 عهد إليه تأسيس مدرسة الاطفال الموسيقية ، سجن عزيز علي في عام 1947 بتهم انتماءه الى الماسونية ..
لقد أرخ عزيز علي فترة تاريخ العراق المعاصر بمونولوجاته التي تؤرخ للقضايا الوطنية وحراك الحرية من الاستعمار واذنابه، ونجد في مونولوجه "البستان" مثلا تشبيه العراق رامزا له ببستان
يقطف ويجني ثمار هذا البستان الانكليز واتباعه، وقد هاجم مجلس الاعمار عندما اراد بناء اوبرا في وقت تعاني مدن العراق من الفقر والتخلف في مونولوجه الذي يقول:
الله من ينطي يغطي بلادنا عمرت ترى
ونبني فندق هلتون ماكومنه بالكون
على عناد العاندونا كلفته جم مليون! |
ونقدت مونولوجاته شخوص وجهات منها السفير البريطاني في بغداد في "صلي عالنبي" الذي اذاعته على الهواء دار الاذاعة العراقية في بغداد.
وبعد انهيار النظام الملكي عام
1958 انفجر بمونولوجه الشهير " كل حال يزول "بقوله:
كل حال يزول ...
ماتظل الدنيا بفد حال
تتحول من حال لحال
هذا دوام الحال محال
كل حال يزول
هالعالم مليان اسرار اسرار تحير الأفكار
دولاب الدنيا الدوار صاعد نازل باستمرار
مايتوقف ليل نهار يقبل ويودع زوار
زغار كبار
اطفال يصيرون رجال ورجال يصيرون ابطال
ورجال يظلون اطفال ورجال انصاف رجال
وعلى هالمنوال تمر الاجيال
وكل جيل يكول
كل حال يزول |
وفي قصيدته "عيش وشوف" ينتقد النظام السياسي والحكومة البرطانية وخاصة سفارتها لكن ميزة قصائد عزيز على انها لاتذكر فيها الاسماء خوفاً من بطش الحكومات بمعنى
انه ينتقدها بصورة غير مباشرة:
عشنا وشفنا وبعد انشوف قرينا الممحي والمكشوف
ماظل فد شي مو معروف عيش وشوف عيش وشوف
عشنا وشفنا بها الدنية كل الادوار
وزين فهمنا الوضعية من احنا زغار |
يذكر حسن العلوي في كتابه "عزيز علي
اللحن الساخر" أنه فنان اجتمعت فيه ثلاث مواهب، شعرية، موسيقية، صوتية، سخرها لقضية شعبه فعانى الجوع والحرمان، وعاش السجن والاضطهاد، كأي مبدئي ملتزم،
حيث أنه سجن لمشاركته في ثورة مايس عام 1941 وقبلها فصل مع طلاب المدارس لنشاطه في التظاهرة التي قامت في بغداد احتجاجاُ على مجيء سير الفريد موند الى العراق عام 1927.
ولم يتخذ عزيز علي من مونولوجاته دعاية ووسيلة للتزلف أو المداهنة، ولم يتصعلك أو يبتذل بل تمتع بشخصية متزنة وقورة أكسبت فنه الإحترام. و توفي في 24 تشرين
الاول عام 1995بعد أن همشته السلطة البعثية، مثله مثل كل رموزنا الفكرية والإبداعية التي كان مصيرها النسيان أو النفي ومن ثم النسيان.
ولم يظهر بعده من يقلده أو يحاكي اسلوبه بما يعني أنه رحمه الله كان ذاتا شكل مدرسة قائمة بذاتها.