الشعب والغوغاء من منظور الوردي
آراء الكاتب
الدكتور عبدالخالق حسين
مثلما لكل فرد شخصيته الخاصة به تميِّزه عن الآخرين، كذلك لكل شعب شخصيته تميزه عن بقية الشعوب، والتي هي نتاج ثقافته
الموروثة (culture)
التي تؤثر في شخصية أفراد ذلك المجتمع وعلى درجات مختلفة. يؤكد العلامة علي الوردي في هذا الصدد، أنه ليس هناك شعب بلا صفات حميدة، كذلك لا يخلو شعب من بعض الخصال السلبية.
ففي هذه الأيام مثلاً نستلم عن طريق البريد الإلكتروني، قائمة بالصفات الحميدة التي يمتاز بها الشعب الياباني، وأهمها
الهدوء واحترام القوانين وهو يواجه نتائج كارثة الزلزال والتسونامي الأخيرين بمنتهى الصبر والصمت. فالكوارث الطبيعية والحروب والثورات والتحولات السريعة العاصفة، تضع كل شعب على محك
يكشف طبيعته وطريقة تصرفه في مواجهة الأحداث. والتطرق إلى سلبيات الشعب ونقدها ضرورة ملحة من أجل معالجتها، وليس التعامل معها بطمس الحقيقة في الرمال مثل النعامة.
إذ يقول الوردي في هذا الخصوص: "أن الإنسان ينكشف جوهره عند الشدائد. وهذا قول ينطبق على المجتمع العراقي خلال الحرب
العالمية الأولى، فإن الأحداث الشديدة التي وقعت حينذاك كشفت عن طبيعته المخبوءة وأظهرته على حقيقته". (علي الوردي، لمحات،ج4، دار كوفان، لندن، 1992، ص 400).
ويضيف في مكان آخر من نفس المصدر: ( يجب أن لا ننسى أن الكثيرين منا متحضرون ظاهرياً بينما هم في أعماقهم لا يزالون
بدواً أو أشباه بدو، فإن قيم البداوة التي تمكنت من أنفسهم على توالي الأجيال ليس من السهل أن تزول عنهم دفعة واحدة بمجرد تقمصهم الأزياء الحديثة أو تمشدقهم بالخطب الرنانة". (ص،402).
يمر شعبنا العراقي منذ 2003 في مرحلة تحولات سياسية واجتماعية عاصفة ومنعطف تاريخي حاد، تخللتها أعمال عدوانية إرهابية
واقتتال، وتصاعد موجة الجريمة المنظمة، إضافة إلى المشاكل الاجتماعية والسياسية الأخرى مثل تفشي الفساد الإداري والرشوة والبطالة وتردي الخدمات ونهب الثورات...الخ، الأمر الذي دفع
جماهير واسعة للخروج إلى الشارع والتظاهر احتجاجاً على هذه الأوضاع المؤلمة. وكما هو معروف في مثل هذه الحالات، لا بد وأن يكون هناك مجال للمجرمين والفوضويين والمتضررين من هذه
التحولات، أن يلعبوا دوراً في خلق المشاكل وباسم الشعب، حيث تنطلق النزعات الغرائزية الحيوانية للانتقام، وتصفية حسابات مع المنافسين والخصوم السياسيين. وهذا ما حصل في جميع الثورات
في التاريخ مثل الثورة الفرنسية، والثورة البلشفية الروسية، وكذلك في ثورة 14 تموز العراقية، ويحصل الآن بعد سقوط حكم البعث الفاشي.
خلال مرحلة التحضيرات للتظاهرات الأخيرة التي بدأت يوم 25 شباط الماضي، حذرنا من اندساس أعداء الشعب من البعثيين
وحلفائهم أتباع القاعدة، وعصابات الجريمة المنظمة، لاختطاف التظاهرات وتجييرها لصالحها ضد مصلحة الشعب. وهذه الفئات المخربة يطلق عليها عادة (الغوغاء). ولكن مع الأسف الشديد، اعتبر
البعض تحذيرنا هذا، وخاصة في مقالنا الموسوم (يسيرون نحو الهاوية وهم نيام)، بمثابة إهانة للشعب، وعلينا تقديم الاعتذار!!
وفي هذه الأيام، وبناسبة الذكرى الثامنة (9/4) لتحرير العراق من حكم الفاشية البعثية، نستلم إيميلات من بعثيين وأعوانهم،
تدعو للمشاركة في تظاهرة أمام السفارة العراقية في لندن "سفارة حكومة الاحتلال الأمريكي!!" على حد تعبيرهم. والمؤسف أن بعض اليساريين يشاركونهم في الرؤية والموقف.
لا شك إن توجيه تهمة (إهانة الشعب) شنيعة، فيها الكثير من المقاصد والغايات الكيدية، والتأليب وتحريض الغوغاء على كاتب
يريد الخير لشعبه، خاصة وقد وقع ما حذرنا منه من اندساس المخربين الفوضويين. ولكن كالعادة، تجنب السادة المحرضون للتظاهرات أية إشارة إلى ما حصل من إشعال الحرائق في مقرات المحافظات
مثل الموصل والديوانية والكوت، وسرقة نحو مليار ونصف مليار دينا من خزانة محافظة الموصل، حسب تصريحات المحافظ، إضافة إلى تفجير مفخخات في تظاهرة الرمادي، وبالجملة قتل نحو 13 شخصاً
بينهم ثلاثة من الشرطة، وجرح العشرات. كل ذلك لم يشيروا إليها وإذا ما أشاروا فباستحياء، مع إلقاء اللوم على الحكومة ورئيسها المالكي بالذات، وعلى الأجهزة الأمنية.
والسؤال هنا: من الذي عليه أن يعتذر للشعب، الذي حذروا من اندساس المخربين، أم أولئك الذين لا يعترفون برأي الشعب الذي
عبر عنه عبر صناديق الاقتراع، إذ يعلنون صراحة وبلا خجل، أن التعويل على البرلمان الحالي باطل، ويجب حله وحل الحكومة...الخ. وهم بذلك يضربون الديمقراطية عرض الحائط. إنهم يكيلون
بمكيالين: يدافعون عن الديمقراطية إذا كانت نتائج الانتخابات في صالحهم، ويحاربونها إذا كانت في صالح خصومهم!
يبدو أن الأخوة، سامحهم الله، يخلطون بين الشعب والغوغاء، وهذا الخلط لا يخلو من خطورة. وهذا ما حذر منه العلامة علي
الوردي إبان الغليان الشعبي في مرحلة ثورة 14 تموز بقوله: "كان حكام العهد البائد يصفون الشعب كله بأنه غوغاء، وصار البعض منا في عهد الثورة يصف الغوغاء
كلهم بأنهم يمثلون الشعب. وقد ضاعت الحقيقة الوسطى بين هؤلاء وأولئك."
ما أصدق هذا القول من عالم كبير، وكأنه يعيش بيننا ويصف حالتنا اليوم. لذلك رأيت من المفيد نقل
مقتطفات مهمة من كتاب (الأحلام بين العلم والعقيدة) للعلامة الراحل، وقد نشر لأول مرة في عهد حكومة ثورة 14 تموز بقيادة
الزعيم عبدالكريم قاسم، حيث لعب الغوغاء الفوضويون دوراً كبيراً في تشويه صورتها وحتى اغتيالها. وفي تلك الأيام، وكما في أيامنا هذه بعد سقوط الفاشية البعثية، كان هناك صراعات دموية
بين القوى السياسية، ومظاهرات صاخبة، شابتها عمليات عنفية يندى لها الجبين.
على أي حال، أترك القراء الكرام مع مقولات مأثورة للعلامة الراحل علي الوردي حول التمييز بين الشعب والغوغاء، لتعميم
الفائدة، وخاصة أولئك الذين يتلاعبون بمشاعر الناس، ويتاجرون بمعاناتهم ويزايدون علينا في الوطنية والحرص على المصلحة العامة، ولا يميزون بين الشعب والغوغاء.
********************
من أقوال الدكتور علي الوردي في الغوغاء
من كتاب: (الأحلام بين العلم والعقيدة، دار كوفان، لندن، ط2، 1994).
*- هنا أود أن أصارح القارئ بقول قد لا يرتضيه مني، هو أني كنت في العهد البائد أخشى من غضب الحكام، وقد أصبحت في العهد
الجديد أخشى من غضب "الغوغاء". وأرجو من القارئ أن لا يسئ فهم قولي هذا. فالغوغاء ظاهرة اجتماعية موجودة في كل مجتمع، شهدنا أثرها في العراق كما شهدناه في مختلف البلاد والمجتمعات.
وكلما اشتد الجهل في بلد أزداد خطر الغوغاء فيه.
وقد أشار إلى خطر الغوغاء مفكرون لا نشك في نزعتهم الشعبية والديمقراطية. أشار إليه ماركس وانجلز في "البيان الشيوعي".
وأشار إليه علي بن أبي طالب قبل مئات السنين، حيث قال عن الغوغاء أنهم همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح، وقال عنهم كذلك أنهم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا.
(ص 319، عن محمد عبده، نهج البلاغة، ج3، ص 198).
* مما يلفت النظر أن بعض مفكرينا في عهد الثورة أخذوا يمتعضون من الإشارة إلى الغوغاء اعتقاداً منهم أن الغوغاء جزء من
الشعب أو هم الشعب ذاته. وهذا خطأ من شأنه أن يؤدي في بعض الأحيان إلى عواقب اجتماعية ضارة.
الواقع أن الشعب غير الغوغاء، فإرادة الشعب تتمثل في القرارات الهادئة الرصينة التي تنبعث من مصلحة الأكثرية. أما
الغوغاء فكثيراً ما تظهر أصواتهم بشكل هياج محموم لا رادع له ولا هدى فيه. لا ننكر أن الشعب والغوغاء قد يظهران في جبهة واحدة في بعض الأحيان، ولكن هذا لا يجيز لنا أن نخلط بينهما في
جميع الأحيان.
سمعت بعض الفظائع التي اقترفها الغوغاء في بعض مناطق العراق، وقد رواها لي ثقاة كانوا شهود عيان فيها، فكدت لا أصدق بها
لهول بشاعتها، فقد يهاجم الغوغاء رجلاً وهو على مرأى من أهله وزوجته وأولاده فيقطعونه بالخناجر ويفقؤون عينيه ويجرونه بالحبل بينما هو يستغيث بهم ويتضرع إليهم دون جدوى. وقد يحمل أحد
الغوغاء بيده ساطوراً يهاجم به من يعرف أو لا يعرف، و قد يهوي بالساطور على وجه المسكين وكتفيه وصدره وكأنه يضرب وسادة من تبن.
إن أكثرية الناس من أبناء الشعب لا يستسيغون هذا ولا يتحملون سماعه. وقد لا يتحمل بعضهم رؤية فأر يعذب أمامه أو طير
يذبح. وتلك لعمري طبيعة كل إنسان سوي يحمل في قلبه شيئاً من الرحمة. ومهما كان الإنسان شعبياً في نزعاته فإنه لا يستطيع أن يتطرف في نزعته الشعبية إلى هذه الدرجة العجيبة. (ص319-320).
* دناءة الغوغاء: جيء
إلى الإمام علي بن أبي طالب، في يوم من أيام خلافته، برجل اقترف ذنباً. وكان الرجل محاطاً بجماعة من الغوغاء يهرِّجون حوله ويحاولون الاعتداء عليه. فصاح فيهم الإمام قائلاً: "لا
مرحباً بوجوه لا تُرى إلا عند كل سوأة".(ص320).
* وحدث لي شخصياً، ذات يوم أن شاهدت جماعة من الغوغاء يجرون بالحبل جثة شخص ويمثلون بها فلم أر فيهم رجلاً يحترم نفسه.
عند هذا تذكرت قول الإمام الآنف الذكر. فهؤلاء الذين يقومون بمثل هذا العمل الفظيع لا نتوقع منهم عادة أن يكونوا مواطنين صالحين. إنهم من سفلة الناس وحثالاتهم. وقد دلتْ الأبحاث
الاجتماعية الحديثة أن الكثيرين منهم يندفعون في أفعالهم الغوغائية تحت تأثير دوافع دنيئة كامنة في أعماق نفوسهم. فهم لا يستطيعون أن يحققوا تلك الدوافع في الأوقات الاعتيادية، ولهذا
نراهم ينتظرون الفرصة المؤاتية لهم، وقد تأتيهم الفرصة إثناء التظاهرات والانتفاضات الشعبية، فيدسون أنفسهم بين صفوف الشعب ويستغلون فترة الحماس السائد فيندفعون في القتل والمثلة وهم
فرحون مستبشرون. (ص 320).
*- كان حكام العهد البائد يصفون الشعب كله بأنه غوغاء وصار البعض منا في عهد الثورة يصف الغوغاء كلهم بأنهم يمثلون
الشعب. وقد ضاعت الحقيقة الوسطى بين هؤلاء وأولئك.
أطلق ماركس على الغوغاء إسم "لومب بروليتاريا" وقصد به العناصر المتفسخة المتهرئة التي تعيش على هامش الطبقة العاملة،
وهو يصفهم بقوله، "هذه الحشرات الجامدة، حثالة أدنى جماعات المجتمع القديم، فقد تجرهم ثورة البروليتاريا إلى الحركة. ولكن ظروف معيشتهم وأوضاع حياتهم تجعلهم أكثر استعداداً لبيع
أنفسهم للرجعية". (ماركس وإنجلس، البيان الشيوعي، ص 28). إن هذا قول صحيح جداً. فالغوغاء الذين نشهدهم متحمسين اليوم للثورة قد ينقلبون غداً إلى أعداء ألداء لها إذا قدر للثورة أن
تنتكس لا سامح الله. (ص 321).
*- ففي الثورة الفرنسية شهدنا المقاصل تنصب ويساق إليها العدد الغفير من الأبرياء والمدنيين زرافات ووحداناً، وكانت
الجماهير تجلس حول المقاصل تضحك على ضحاياها وتتفرج على الطريقة التي يذبحون بها كأنها كانت تتفرج على مسرحية جميلة. (ص 324).
*- سمعت أحد شبابنا يقول مفاخراً: "إن الشعب العراقي امتاز على الشعوب الأخرى بابتكاره لطريقة السحل". ولست أدري مبلغ
هذا القول من الصحة، ولكني أتمنى من صميم قلبي أن لا يكون صحيحاً. فالأمم اليوم تبتكر الوسائل للصعود إلى القمر والمريخ، بينما نحن نفتخر بابتكارنا وسائل المثلة والتعذيب. (ص 325).
*- يقولون أن وراء مجازر كركوك يداً أجنبية. وهذا قول صحيح تدعمه قرائن لا يستهان بها. ونحن إذ نعترف بصحة هذا القول يجب
أن نعترف كذلك بأن اليد الأجنبية لا تؤثر في مجتمع ما لم تجد فيه مجالاً لتأثيرها. فهي تلقي الشرارة الخبيثة على الناس، وما لم يكن في الناس مجال لاندلاع النار انطفأت الشرارة حال
انطلاقها. (ص 326).
*- إذا كان لكل فرد من الناس شخصية خاصة به يتميَّز بها عن غيره، فإن لكل شعب من شعوب العالم كذلك طبيعته الخاصة أو
طابعه الذي يختلف به عن بقية الشعوب. ومثلما يكون الشعب، أي شعب، طيباً في بعض صفاته قد يكون رديئاً في صفاته الأخرى. فليس في الدنيا شعب كامل كما ليس فيها بشر معصوم.
قد لا يستسيغ هذا القول بعض شبابنا المتحمسين. فقد تكونت لديهم في هذه الأيام "حساسية" شديدة نحو الشعوب. وهم يريدون
منا، حين نذكر الشعب العراقي بصفة خاصة، أن نمجده تمجيداً تاماً ونعزو له فضائل البشر كلها. (ص 327).
*- نرجو من شبابنا أن يدرسوا طبيعة شعبهم قبل أن يتحمسوا في سبيله، فربما كان الحماس الشديد ضاراً بهذا الشعب أكثر مما
هو ضار بأي شعب آخر.
عاش الشعب العراقي زمناً طويلاً تحت وطأة ظروف اقتصادية وسياسية جائرة، وتحمل سياط الجلاوزة فيها بصبر عجيب. ومما يجدر
ذكره أن الشعب العراقي لم يتحمل الظلم خلال أربعين عاماً فقط، كما يحلو لبعض كتابنا أن يقولوا. الواقع أنه تحمل الظلم على مدى مئات السنين، ولم يكن العهد العثماني، أو العهد المغولي
والتتري، خيراً من العهد الملكي البائد على أي حال. معنى هذا أن الشعب العراقي قد اعتاد خلال هاتيك العهود البغيضة على أخلاق ليس من السهل عليه التخلص منها فور قيام الثورة فيه.
والشعب العراقي من الناحية الثانية قد اعتاد على أخلاق أخرى جاءته من الصحراء. وهذه أخلاق، كما لا يخفى، تختلف من حيث
أسبابها ونتائجها الاجتماعية عن تلك التي نشأت تحت سياط الجلاوزة.
لعلني لا أغالي إذا استنتجت من ذلك أن الفرد العراقي بوجه عام أصبح ذا شخصيتين مختلفتين. فهو في إحدى شخصيتيه بدوي شديد
الإباء سريع الغضب، وهو في شخصيته الثانية حضري خانع يكثر من الشكوى والعتب على الزمان. وهو يتخذ أية واحدة من هاتين الشخصيتين تبعاً للظروف المحيطة به. (ص 328).
*- اعتراض وجيه:
رب قائل يقول لي: إن هذا المنهج الذي تتبعه في التحري عن عيوب شعبنا قد يضر بنا في هذه المرحلة الاجتماعية التي نمر بها،
فالشعب الذي يركز نظره على عيوبه قد يصبح ضعيف الثقة بنفسه، وفي ذلك توهين لقوة الشعب تجاه أعدائه الواقفين له بالمرصاد.
إن هذا القول صحيح، وهو الذي جعلني أحجم عن التأليف والكتابة في عهد جمهوريتنا الزاهر. ولكني مع ذلك أستطيع أن أقول بأن
التطرف في إتباع هذا القول قد لا يخلو من ضرر بالشعب كذلك. فإذا كان البحث في العيوب الشعبية يضعف ثقة الشعب بنفسه فقد يكون التكتم عن تلك العيوب والتستر عليها مضعفاً للشعب من جهة
أخرى، إذ هو يؤدي به إلى الطيش والحماس الزائد.
إن الشعب الذي لا يعرف نقائصه ولا يدرك مكامن الضعف في نفسه لا يسهل عليه أن يكون قوياً إزاء أعدائه. والعدو الكامن في
داخل النفس ربما كان أشد خطراً من العدو المتربص لها في الخارج.
إننا إذا ألقينا في روع الشعب بأنه شعب كامل، ثم صدق الشعب بما نقول له، كان ذلك من أسباب الغرور فيه، ولعله سيندفع
بغروره بما ينفع الأعداء ويفتح لهم في صفوفه ثغرة ينفذون منها إلى الاعتداء عليه مرة أخرى.
لقد ذهب زمان الغرور الشعبي كما ذهب زمان الغرور القومي قبله. ويؤسفنا أن نرى الناس بالأمس يتهموننا بـ"الشعوبية" لأننا
كنا لا نجاريهم في غرورهم القومي، واحسبهم اليوم يتهموننا بـ"الرجعية" لأننا لا نجاريهم في غرورهم الشعبي. (ص 329-330).
خطأ شائع:
يزعم بعض المفكرين منا أن لا حاجة لنا بالبحث عن عيوب شعبنا إذ هي في نظرهم عيوب نشأت عن ظروف اقتصادية بائدة، وحين
تتبدل تلك الظروف تنقشع معها عيوب الشعوب حالاً، فلا مشكلة تبقى إذَنْ، ولا هم يحزنون!
إن هذا الرأي كان لها أتباع كثيرون في السنوات الماضية يتعصبون له ويدافعون عنه بحماس شديد. ولكن هؤلاء الأتباع أخذوا
يقلون تدريجياً في الآونة الأخيرة بعدما أظهرت الأبحاث الاجتماعية الحديثة خطأ رأيهم.
هناك رواسب فكرية واجتماعية ترسبت في أعماق نفوسنا على مدى أجيال عديدة، وليس من الممكن زوالها حالاً بمجرد تغيير نظامنا
الاقتصادي والسياسي. إنها ليست طفحاً طارئاً نشأ في يوم واحد حتى يمكن إزالته في اليوم التالي. أرجح الظن أنها ستبقى فعالة تؤثر في سلوكنا مدة طويلة، ولعلها ستصبح ركيزة لكل من يبتغي
الكيد بنظامنا الجديد مرة بعد مرة.
نحن نحتاج إلى ثورة فكرية واجتماعية مثلما نحتاج إلى ثورة سياسية واقتصادية. ونحن لا ننتظر من ثورتنا أن تواصل السير في
طريقها المنشود ما لم نرشد الشعب في عقولهم الباطنة من رواسب قديمة تنخر في كيانهم الاجتماعي وتعرقل عليهم سبيل الحياة. (ص 330-331)