الليل والنهار في فلسفة الوجود
من بحوثي في علمي الوجود والتكوين
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.co.uk
توطئة:
لا شك ان البحث في عالم الوجود يتجذر في علم التكوين بالاساس، حيث هناك كانت الكلمة التي احدثت مالم يكن موجوداً من قبل، فالليل والنهار
كائنان، يقول تعالى: " فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ". (1)
لله عزوجل تعبير دقيق وعميق في معنى الليل والنهار ففي الليل تسكن النفوس بسكون عالم
الوجود الذي يغشاه الليل، فجزء الكرة الارضية التي يحل فيها الليل تبدأ الكائنات بالتخلص من أعباء النهار فتنخفض درجات الحرارة ويدخل الوجود مرحلة السكون والصمت فالكائنات، تفقد حرارة
الجسد لتتركز حرارة النفس والروح، الا ترى كيف أن الصلاة في الليل تتخذ معنى أرقى لأن صمت الوجود يفتح بابا لعالم التكوين الذي لا فيه صخب ولا نزاع، فهو عالم من الرقي والتكامل، ففي
الليل تسرح الارواح في عالم عال تتكامل فيه معاني الإنسان، في الليل يقترب الانسان بالعبادة من القيمة الوجودية التي أرادها الله له، تلك القيمة هي احد اشكال التناسق الحضاري الذي
يعبر عن إراده الله التامة. فعندما يريد الله من الانسان ان يكون خليفته في الارض، فلأن الخالق تعالى شأنه يدرك حقيقة الانسان الذي خلقة ليقود الوجود.
ولقد وضع الرسول الخاتم (ص) معياراً لقيمة الانسان مقابل الكم اللامتناهي من مفردات الوجود، فقال صلوات الله عليه وآله مخاطبا البيت الحرام: " مرحبا بالبيت ما أعظمك وأعظم حرمتك على
الله، والله للمؤمن أعظم حرمة منك ". وما ذلك الا لقيمة الانسان التي تعالت على قيمة البيت الحرام. فكيف إذا كان هذا الإنسان نبياً أو رسولاً أو إماما معصوماً؟ أو ولياً من الأولياء؟
في معنى السكون:
للسكون معنيين مادي وتكويني. فأما المادي، فقد يظهر في معنى عدم الحركة، أو إنتفائها، وأما التكويني فهو لا يعني العدم ولكنه يعني النقاء والحالة الخالية من الغضب والانفعالات النفسية
والشهوية. وهو تعبير عن التفكر في معنى الخلق وفي تمجيد الله تعالى شأنه.
فالملائكة الذين تكون عبادتهم متجلية في حالات خاصة كالقيام، يكون معنى قيامهم عبادة لله لانهم عبدوه بهذا القيام له فتفردوا بذلك، وهم في سكون منقطع اليه تعالى شأنه، وكذلك الراكعون
يكون ركوعهم عبادة له وهم في حالة من السكون المطلق لا يهمهم من يتحرك في ارجائهم. والساجدون والحامدون والشاكرون المستغفرون كل عبادته تتخذ شكلاً خاصة تمثل حالة من السكون المتجلي في
معنى تلك العبادة.
ولكن هل يوحي الليل بالسكون؟ من المهم أن ندرك ان الحياة لا تتوقف لمجرد حلول الليل، ولكنها تتخذ مظهراً آخر. فلليل كائناته ومخلوقاته
وحركته التي لا تختلف عن النهار، فعدم رؤيتنا لها بالبصر لا ينفي وجودها، فللحياة مظاهر مختلفة، والسكون في حضرة الضياء يتخذ صوراً شتى وهو كذلك في حضرة الظلام.
قد ينظر بعض الفلاسفة إلى السكون بانه عملية تفادي العلاقات مع الوجود، لكن الحقيقة المنطقية تقول انه لا يمكن إيقاف العلاقات بين الوجودات، إذ حتى الموت نفسه لا يمكن ان يعبر عن توقف
العلاقة بين الانسان والوجود، فالعلاقات لا تتوقف، ليس لان جسد الانسان يبقى يحتل مساحة في الوجود بالمفهوم الفيزيائي فقط، بل لأن منظومة العلاقات بين المادي والكوني تبقى مستمرة.
لعل حقيقة السكون تكمن في الوصول إلى لحظة التوحد بين عالمي الوجود والتكوين، في تلك اللحظة يظهر نوع من التقارب المتوازن بين بين الوجودي والتكويني، أو ربما الأصح تغلب نسبة التكويني
على الوجودي في زمن قياسي يصعب تحديده حسابياً. فتقل الروابط بين الانسان وعالم الوجود وتزداد بينه وعالم التكوين فيحدث السكون لسمو عالم التكوين عن عالم الوجود.
حقيقة الضياء:
يحاول بعض الفلاسفة طرح فكرة ايهما أسبق: الليل أم النهار؟ الضياء أم الظلمة، متجاهلين قضية أساسية هو ان الله أزلي الوجود وأنه خالق كل الوجودات منها النور والظلمة كما تقدمنا. وفي
الفلسفات القديمة ثمة ميثولوجيا الصراع بين النور والظلام، :انه تعبير عن الصراع بين الخير والشر، كما في الديانات المثنوية وبالاخص في الديانة المانوية (3). في حين نجد ان الفلسفة
الاسلامية قد اعطت قيمة عليا لليل تعبيراً عن زمن التفرغ للعبادة والمناجاة. كما قدمت النهار بإعتباره زمن العمل والكد من أجل الرزق، والتعارف بين الناس.
وإذا أردنا المفهوم الفلسفي له فليس الضياء مجرد محاولة لإزاحة الظلمة، بل هو تعبير عن إنكشاف الاشكال على حقيقتها، فعلى الرغم من أن
حضور الاشياء (الوجودات) في الليل والنهار لا يغير من مظهرها الخارجي، كأشياء (كوجودات) ذات عناصر ثابتة، إلا أن الضياء يكشف عن حقيقتها المظهرية فيمكن للعين أن تبصرها، وهو إنكشاف لا
يغير ماهيتها ولكنه يبين ما لم يكن ظاهراً منها في الظلام لقصور في مستويات النظر حيث ان العين تبصر طائفة من الترددات الطيفية تقع بين البنفسجي والاحمر، ولايمكن رؤية فوق ترددات
الطيف البنفسجي او تحت ترددات الطيف الاحمر بالعين المجردة.
يقول الحق سبحانه: " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ". (4)
يقال في اللغة: " فالسلخ، إخراج الشيء من لباسه، ومنه إخراج الحيوان من جلده "، ويقال:" سلخ يسلخ سلخاً فهو سالخ ". (5)
فالانسلاخ هنا يوحي برفع النهار عن جسم الليل، فإذا حدث السلخ وقعت الظلمة، فلا نهار، لأن الضياء كاشف والظلمة مانعة عن الرؤية، كما في قوله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج
من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ". (6)
القرآن الكريم لم يذكر الضوء لكنه ذكر الضياء في ثلاث مواقع فقال:
"هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون". (7)
ليعلمنا الفرق بين الضياء والنور، فالضياء صادر عن مصدر مضيء، والنور إنعكاس للضياء.
وقال أيضاً: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين". (8)
فالضياء هنا الدليل والبرهان لانه كاشف عن ما وراء الظلمة. وهي ظلمة الجهل بالخالق.
وقال تعالى شأنه: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون". (9)
فهو عز شأنه يقول لهم لو اني جعلت الليل عليكم باقياً مدى الدهر والى يوم القيامة فمن سيتمكن من أن يأتيكم بضياء، كضياء النهار تبصرون فيه، وقد قال كضياء لانه أراد ضياء الشمس التي
تتجلى في النهار، ولهاذ لم يقل نوراً لان النور هو نور القمر ويكون في الليل وهو ليس أصيل باعتباره يمثل إنعكاسا لضياء الشمس كما ذكرنا.
الليل أم الظلمة؟
لم يذكر القرآن الظلام ولا الظلمة بصيغة المفرد، ولكنه ذكر الظلمات بصيغة الجمع (22) مرة في (21) آية، كلها جائت بمعنى الظلام نقيض النور، نذكر منها هنا ثلاث آيات.
يقول الحق سبحانه: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ". (10)
ويقول أيضا: " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ". (11)
وقوله: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ". (12)
لا شك إن تكرار إستعمال لفظ (الظلمات) يعبر في أحد أشكاله اللامتناهية عن تعدد معاني وأشكال ومفاهيم الظلام والظلمة، ولعل تعبيره تعالى شأنه في سورة البقرة الاية (257) دليل واضح على
التعددية، وما أرتباط الليل بالظلمة إلا من ناحية الدلالة على حجب الرؤية بإنعدام الضياء في المقام الاول. إلا أن الظلمة تعني أيضا ظلم الجهل عن معرفة الاشياء، فالخروج من الظلمات إلى
النور هو خروج من دائرة الجهالة بكل انواعها وأشكالها إلى حضيرة المعرفة، وأول مراتب المعرفة وأعلاها هي معرفة الله تعالى شأنه.
ولهذا قال تعالى : " من الظلمات الى النور" بإعتبار ان نور التوحيد هو واحد وهو الله.
الم ترى قوله تعالى: " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء
ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ". (13)
وفي الليل يقول تعالى: " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ". (14)
نلاحظ أن الليل هو تعبير عن الزمن الذي تحل فيه الظلمات، والظلمات تعبير عن احتجاب النور، كما انها تعبر عن الجهالة وظلمة الفكر، لأن النور كاشف حجب الظلمة الوجودية بالمعنى التكويني
ولانه ايضا كاشف لحجب الجهالة بالمعنى العقلي واللغوي التعبيري.
لماذا الليل والنهار؟
ولكن لماذا الليل والنهار؟ هل يكفي أن يكون البحث فيهما بحثاً رياضياً فيزيائياً أم بحثاً وجودياً تكوينياً؟ فوجدت أنه لما كان الليل والنهار عناصر زمنية يسهل حسابها وتوقيتها صارت
دلالات لأعمال الفرائض من صلاة وصيام لإمكان توقيتها وعد ساعاتها على خلاف النور والظلمة التي لا يشترط ظهورها بالزمن.
وأما النور والظلمة، فيمكن أن يقعان في حيز الفهم الفيزيائي للاشياء، فإذا اخذنا بالتفسير الفيزيائي للضوء سيكون النور (ترددات موجية مع
فوتونات)، فوقوعها في تردد معين سيعني ظهور النور للعين الباصرة، في حين يكون وقوعها في ترددات أعلى أو أقل من قدر العين، سيعني لنا الظلمة مع أن الضياء موجود لكننا لانملك القدرة على
استكشافه لأن حاسة البصر لدينا محدودة.
إن وقوع الليل والنهار في عالم المحسوس بالنسبة لنا إنما يمثل قواعد منهجية لمسيرة الحياة اليومية وتنظيم فعالياتها منذ الشروق وحتي المغيب، ومنه إلى الشروق القادم. في حين ان النور
والظلمة يحددان المساحات الزمنية لليل والنهار، مما يجعل للافعال حدود ومعايير يمكن الرجوع اليها في التقييم وتحديد نوع الفعل بما يتناسب وحركة الليل والنهار والنور والظلمة.
.......................
1- الانعام:96.
2- راجع البحار.
3- المانوية: أو المانونية: نسبة إلى مانو أو ماني الذي ولد في بابل عام 216م في زمن
شابور بن اردشير، وقد قتله بهرام بن شابور، وكان مجوسيا ادعى انه جاءه الوحي عندما كان عمره 12 عاما، وكان عالما بالكتب القديمة، وكان يقول بنبوة المسيح ولكنه انكر نبوة موسى عليهما
السلام.
4- يس: 37.
5- انظر، شيخ الطائفة الطوسي، التبيان في تفسير القرآن: 8/459.
6- النور:40.
7- يونس:5.
8- الانبياء: 48.
9- القصص: 71.
10- البقرة: 17.
11- البقرة: 19.
12- البقرة: 257.
13- النور: 35.
14- البقرة: 178.