الكعبة البيت الحرام بين الشكل والمضمون
دراسة في فلسفة الوجود وفي علم الحقائق
آراء الكاتب
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.co.uk
http://al-muammal.blogspot.com
توطئة في المفاهيم:
تتأسس العلاقة بين المادي والروحي عند الاصول التكوينية للوجودات، إنطلاقا من فكرة ان الاصل التكويني للعوالم هو ما قبل المادة (وانا استعمل هذا المصطلح
في قبال ما وراء المادة باعتبار ان ما قبل يعطي فهما تأسيسيا في حين مصطلح ما وراء يقدم فهما لما هو يتجاوز الحالة التي فيها هذا الوجود او ذاك). وما يمكن ان نسميه فيزياويا (بالطاقة)
أو القوة غير المادية، وهي التي يعبر عنها الله عزوجل في (علم الخلق) بقوله انه يقول للشيء (كن فيكون) فهنا لم يستعمل الخالق تعالى شأنه أصلا ماديا للخلق بل استعمل اللفظ الذي كان
فاعلا في التكوين وهو غير مادي إلا إن ذلك لا يجرده من علته بما يعني ان الخلق والتكوين يبقى في دائرة (العلة والمعلول) او في موقف (السببية). فالماء مثلا الذي هو اصل كل شيء حي كما
يقول عزوجل: (وجعلنا من الماء كل شيء حي). الانبياء/30. لم يكون موجودا ولكن الله عزوجل خلقه لعله (اي لسبب) ثم خلق منه الاحياء أي ان الماء بذاته صار علة للخلق وهو سبب تنسب
اليه المخلوقات الحية، ومن هنا يقال ان مني الرجل مثلا هو (ماء الحياة).
لاشك فان الخلق الاول (التكوين) لم يكن على أسس مادية، او نتاجا للحالة المادية وأما خلق الانسان من طين (1) فهو يعكس الغاية النهائية للانسان باعتباره
سيعيش على الارض ومن هنا كان لابد ان يكون من نفس نسيج خلق الارض فعلة خلق الانسان من طين بالاصل لانه اريد له ان يعيش عليها ويتناسل ويعمرها ويكون خليفة منذ ما قبل عصر الهبوط (2).
إن نفي الجانب المادي عن الفكرة إنما يؤكد على حقيقتها الروحية وإن تلبست بشكل مادي يتفق مع عالم الوجود (العالم المادي)، مما يعني ان اصل الفكرة يتكون في
(عالم التكوين) أو في عالم (المثال) (3)، أو في أي من العوالم غير المادية، لكن حاجة العالم المادي الى مظهرها الذي نراها به إنما لاعتبارات منها القصور البصري للعين الانسانية عن
إدراك عالم التكوين إدراكا عينيا. وبالتالي يصبح وجودها بالشكل المادي ضرورة لتحديد مظهرها مع عدم تخليها عن ارتباطها (بالعالم الروحي) حيث ان (العالم المادي) يعتمد في تشخيصه على
الاشكال والمظاهر للوجودات على عكس العالم الروحي الذي يعتمد على العقل والايمان.
وقد وضعت هذه المقدمة على ايجازها كرؤية تحلل الجانب المادي للكعبة باعتبارها بناء من الحجر والاخشاب له أسس معمارية وحدود وقياسات هندسية وفق احتياجات
(العالم المادي) لها، غير ان هذا الشكل المظهري يبقى لا قيمة له إلا لكونه دليلاً على المظهر الروحي لها باعتباره المظهر الاصيل والغاية العليا من هذا البناء.
من جانب آخر ومن موقف تاريخي وآثاري لا يمكن انكار القيمة العليا لكل حجر في بناء الكعبة البيت الحرام لإعتبارات ما تمثله من محاولة مادية لتجسيد الجانب
الروحي اضافة لاعتبارات العمق التاريخي ولكونها ترتبط بالوحي ولكونها وهذا الاهم تمثل دليلا واقعيا وماديا على علاقة الارض بالسماء (على الاقل من خلال مفاهيمنا وعقولنا القاصرة)، أو
ما نسمية في الفلسفة الالهية علاقة عالم الوجود بعوالم التكوين.
من عالم التكوين الى عالم الوجود:
تمثل الكعبة (البيت الحرام) إمتداداً مادياً أو إنعكاسا للوجود التكويني لكل من (العرش) (4)، (الضراح في السماء السابعة) (5) و(البيت المعمور في السماء
الرابعة) (6). فالكعبة هي مطاف أهل الارض، كما ان تلك البيوت مطاف الملائكة حسب درجاتهم في السماوات، باعتبار ان كل من هذه البيوت (الضراح، البيت المعمور والكعبة) انما تمثل محلا
لتحقيق قيم الخضوع لله عز
وجل من خلال الطواف حولها.
من هنا فان القيمة العليا للكعبة المشرفة لا تكمن في البناء ذاته بقدر ما تكمن في حقيقتها كمحل للعبادة وكونها البوابة الاولى الى السماء. فالبناء ما هو
إلا مظهر أو دليل عليها في قبال وجودها في عوالم التكوين بمظاهرها التي لا ترقى اليها العين القاصرة عن ادراك خفايا الحقائق.
فحقيقة الكعبة هي حقيقة روحية وغير مادية، فالطواف والعبادات والصلوات عندها أو في قبلتها (باتجاهها) فانما هو تحقيق لقضية الاخلاص باعتبار ان علاقة
الانسان بالله عز
وجل تتبع الجدل الصاعد كونها علاقة تعبدية من الانسان (من الاسفل) الى الله (الاعلى). وما وجود الكعبة في عالمنا إلا لتكون محلا ماديا
(وجوديا) ذو عمق روحي للعبادة بسبب طبيعة عالمنا المادي (عالم الوجود) الذي نعيش فيه.
أن تكون الكعبة بيتا لله بمعنى محلا لعبادة الله فهذه الفكره وحدها كافية لأن ندرك حقيقة الكعبة باعتبار ان الله عز
وجل ليس كمثله شيء ولا يمكن توصيفه توصيفا ماديا بمفهوم المادة
(الشكل، الحجم، الابعاد، الوزن) الى غير ذلك من التوصيفات المادية التي اعتدنا عليها والتي هي نتاج لطبيعة عالمنا المادي. وبالتالي لايمكن حقيقة توصيف العرش مثلا ولا الكرسي، إلا من
خلال المعنى الروحي والايحائي والتكويني (نسبة الى عالم التكوين) وإلا فلا يمكن إحلال معناه محلا ماديا وإلا لدخلنا في قضية التجسيم كما يقول اتباع المذهب الوهابي السلفي. وهو مفهم
مرفوض عقلاً ووجداناً وقيماً روحية.
الموقف الجمالي والموقف الروحي:
من خلال مسار حركة التاريخ تظهر الكثير من المواقف التي حاول اتباعها إستغلال الموقف الروحي للبيت الحرام بمحاولة ربط النتاج البشري به، فبعد الانحراف
الذي قاده (عمرو بن عامر بن لحي) في العصر الجاهلي باستقدام أحد الاوثان (هبل) من الشام ووضعة في الكعبة ليكون محلا للبركة المزعومة ثم لإيجاد علاقة له بقضية الحج التي شرعها الله
تعالى منذ زمن ابراهيم الخليل عليه السلام، فقد اشرك عمرو بن لحي (هبل) وبقية الاصنام والاوثان التي استعملت كآلهة بالتلبية للحج، منذ ذلك العصر تم استغلال مكانة الكعبة لأغراض لا
علاقة لها بالدين وإن تلبست بمظهرها الخارجي بقضية عبادية منحرفة. فوجود الاصنام في الكعبة ثم ما وضعه فيها عبد المطلب (رض) من القى الاثرية (غزالات الذهب والسيوف) التي عثر عليها
اثناء حفره لبئر زمزم او اثناء تعليق الشعراء لمعلقاتهم على جدران الكعبة، كل ذلك لم يقدم للكعبة قيمة اضافية لما تمثله هي اصلاً من معنى وقيم روحية تتمثل بكونها محلا للعلاقة بين
الانسان والخالق، بل انهم بذلك حطوا من قيمتها وخاصة وضع الاصنام والاوثان بداخلها، فانهم قد انتهكوا حرمتها الروحية ودنسوا حقيقتها التي ارادها الله لها منذ ان امر خليله عليه السلام
ببنائها لتكون محلا للحجيج ومطافهم وقبلة للصلاة والدعاء والتقرب اليه تعالى شأنه، وفي ولادة الامام علي عليه السلام في الكعبة فانها قد اضفت على ولادته عمقا روحياً بقي خالداً على
مسار حركة التاريخ وبينت مكانته وعصمته.
أما محاولات البعض باعتبار الكعبة مستودعا للتراث او (متحفا) لانها حوت في فترة ما تماثيلا أو لقى فلا قيمة تاريخية أو مادية لها بهذا المعنى، من جانب آخر
فان التزيين والاضافات الزخرفية والفنية للكعبة (اضافة الكسوة) وما يضاف للاضرحة من التذهيب والتفضيض (اضافة الفضة) والمنمنمات والاشكال الهندسية، فإنما هي محاولة بشرية لتكريم هذا
المحل العبادي والاعتراف بقيمته الروحية عبر التفاعل البشري، وهي محاولة منا نحن البشر للاقتراب ولو قليلا من الجمالية الروحية لهذا الأماكن، ولا يمكن اعتبار ذلك اضافة روحية لما هي
عليه، بل اننا لا نتمكن مهما أوتينا من قوة بدنية او عقلية من تقديم اضافات روحية أو معنوية، فقيمة الكعبة لم تتحقق في الارض أصلاً كما ذكرنا، وما علاقتنا بها إلا من خلال الادراك
الواعي للمثل العليا وهذا بدوره لا يتحقق كلياً إلا في العقل المعصوم، فالانبياء والرسل هم أولى بإدراك حقيقتها ثم المعصومين واصحاب المدارك العليا كل وفق علو إدراكه وعمق فهمه
لحقيقتها النورية.
ومن هنا فان محاولة تقديم الكعبة بعناوين مادية صرفة مثل اعتبارها متحفاً أو تفسيرها بكونها منزلاً لمفاهيم خارج ما اراده الله عزوجل لها، فذلك لايخدم
حقيقته بل يضعف مكانتها في عقول ونفوس الناس ويعتبر تحديا لكينونتها كبيت لله عزوجل.
..............................
1-
راجع البياتي، أ.د. وليد سعيد، فلسفة التاريخ، المقدمة 1/ 35.
2-
عصر الهبوط: هو العصر الذي اهبط الله فيه آدم (عليه السلام) من
موضع خلقه الى الارض ليستخلفه فيها، ووفقا للدراسات التاريخية في دائرة المعارف الحسينية فان عصر الهبوط هو (6680 ق هـ) قبل الهجرة. من جانبنا فقد قارنا ذلك بما ذكرته الكتب السماوية
في قضيتي الخلق والتكوين فوجدنا ان هذا التاريخ هو الاقرب. وللمزيد راجع الكرباسي، آية الله محمد صادق، الحسين والتشريع الاسلامي 1/54. واما البحوث الاثارية والمكتشفات التي تشير الى
وجود مخلوقات تعود الى مئات الالوف او ملايين السنين فهذا لا يخالف الموضوع باعتبار ان القرآن اعترف بوجود مخلوقات لله عزوجل قبل آدم، بل أن آدم (ع) نفسه ما هو إلا جزء من سلسلة
الخلق الالهي وهذا عين ما قالت به السنة المطهرة.
3-
عالم المثال: أحد أربعة عوالم في علم التكوين كل منها يتصف
بخاصية تكوينية ويعتبر عالم المثال هو الثالث على مقالة بعض العرفانيين الذي يسبق عالم الوجود، وقد وجدت خلال دراساتي في فلسفة العرفان ان العوالم أكثر من ثلاثة وهي في تفسيري تقع في
سبعة عوالم تكوينية، وعن العوالم الاربعة راجع ملا صدرا، اسرار الايات.
4-
العرش: هو مصدر القرار: وهو مطاف حملة العرش. وقد ذكرت ذلك في
رسالة عرفانية خاصة. كما ان (الحمل او الرفع) نفسه لا يحتمل نفس المفهوم المادي لحمل الاشياء اي انه لا يشابه معنى الحمل والرفع في الفهم المادي للمفردة اللغوية. وهذا ايضا ذكرته في
رسالتي عن علم الحقائق. وللمزيد ايضا راجع أسرار الايات/67 وايضا 118.
5-
الضُّراح: وهو بيت في السماء السابعة خلقه الله ليكون مطافا
للملائكة الكروبيين (العليين). راجع، المجلسي، محمد باقر: البحار. الكاشاني: الحقائق، الكرباسي: شريعة الكعبة، البياتي: مدارك الابصار في معرفة الاسرار.
6-
البيت المعمور: وهو البيت الذي خلقه الله في السماء الرابعة
ليكون مطافا للملائكة الموكلين بشؤون الارض. المصادر السابقة.