Back Home Next

صفحة من حياة النبي محمد

آراء الكاتب

 بقلم الدكتور رضا العطار

ridhaalattar@yahoo.com

 

لقد آن للغرب ان يدرك ان نبي الاسلام محمد هو من منابع الفكر الحر، وطفرة من طفرات البشرية المتحررة ! ... والدليل على ذلك شخصية النبي ذاتها، وغرضه في الدعوة الى دين، جوهره اقناع النفس بالحقيقة العليا.   ف (محمد) هو اول نبي جسّد البشرية بان اعلن انه بشر، وان دينه هو دين الفطرة البشرية. وقاوم اولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون الى الانبياء ان يثبتوا نبوئتهم بالمعجزات، فأثموا في الفكر البشري قبل ان يأثموا في حق الدين! ...  

فالمعجزة اي الايتان بعمل خارق للمعتاد لا تدل على شئ ولا تثبت نبوة ولا تدحضها، فان من الكهان او بسطاء الناس من يملكون احيانا تلك القوى الخارقة في اجسامهم او عقولهم او ارواحهم، دون ان يكونوا من اجل ذلك انبياء .. وان (النبي) ليس في حاجة الى معجزة كي يكون نبيا ... انما النبي من حمل رسالة علوية لا ينصرف عن الحياة حتى يؤديها ... ومن فضل (محمد) انه لم يشأ ان يقنع الناس بغير ذلك، فقد بلغهم رسالته ... واعتمد في اثباتها على الملكات البشرية المجردة المتحررة ! .  

فلقد جاء في كتب السيرة: ان المسلمين عطشوا اثناء مسيرهم الى (غزوة تبوك) فأمطرتهم السماء، فقال بعضهم: انها معجزة، فصاح (محمد) من فوره (انما هي سحابة مارة ! ...وجاء في كتب السيرة: ان الشمس كسفت يوم مات ابنه (ابراهيم) . فقال الناس ( ان هذا الكسوف معجزة ) فصاح (محمد) (ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت احد (  

ان (محمد) قد فهم حقيقة النبوة ووعى معناها وادرك ان اكبر معجزة في هذا الكون هي الاّ يكون في الكون معجزات. وان كل شئ يسير طبقا لنظام دقيق. واذا قيل نظام، قيل قانون. واذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد احد، تبدو في ادارة الاجسام غير المحددة في الصغر، ذات اليد العلوية وعين اثرها هي كل شئ، يد واحدة وقانون واحد لا يتغير ! ...  

ان (محمدا) قد تأمل الطبيعة كثيرا ايام عزلته الطويلة في (غار حراء) وفكر مليا في نظامها العجيب فكشف عن بصيرته وبصره، فأمتلأ قلبه بالواحد الأحد كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء دينه دينا كاملا صادقا في نظر القلب والعقل معا ! ...

ولئن كان على الارض نبي حرص على ان يجاهر بمحبة العلم ومصادقته ولم يخش دينه العلم ولم يضطهد العلماء فهو (محمد) الذي قال:  

(فضل العلم خير من فضل العبادة)، (اطلب العلم ولو في الصين) وكثيرا من الاحاديث التي تثني على العلم وتخص عليه. ذلك ان مصدر اقناع العلم ومصدر اقناع (محمد) واحد : الكون وملاحظة ما فيه من ابداع ينم عن عقل مبدع هائل!

في كتاب للعالم الفيزيائي الشهير انشتاين فصل ذكر فيه رأيه في الدين فقال:

(انه يعتنق ما يسميه: الديانة الكونية) تلك الديانة التي تملأ قلب كل عالم انقطع للتأمل

ذلك التناسق العجيب بين قوانين الطبيعة وما يخفى من عقل، يتعذر تصور عظمته، لو اجتمعت كل افكار البشر الى جانبه، لما كونت غير شعاع ضئيل.  

لا ريب عندي ان احساس (انشتاين) نحو الكون والله هو عين احساس النبي محمد يوم كان يتعبد ويتأمل في غار حراء. فالانبياء والعلماء قلوب واعية تستشعر بجلال الخلق ولا يمكن نبيا الا ان يحس من تلقاء نفسه بعظمة الخليقة ويتحرق شوقا الى معرفة سرها ولا يزال الشوق بقلبه حتى تكشف له القوة العظمى عن بعض نوره، ويوحى اليه بنشر هذا النور على الانسانية.  

انني كلما تأملت في شخصية النبي محمد، ثبت ايماني بان الخصومة المعروفة بين العلم والدين ليس لها في الحقيقة وجود، وان الدين الحق لا يتعارض والعلم الحق. بل ان كلاهما يرنو الى نور المعرفة. ولم يظهر نبي حق بغير ذلك. انما يطمح دوما الى فهم المجهول. فما الدين والعلم والفن الاّ خيوط ثلاثة كتب على بشريتنا القاصرة ان تتمسك بها لتهتدي الى ذلك النور الذي لا بداية له ولا نهاية.  

وفي سبيل اظهار عظمة نبي الاسلام محمد (ص) لمن اراد ان يعلم، عليه ان يتخيل رجلا مغمورا وحيدا فقيرا، تمكنت من قلبه عقيدة، فنظر حوله فإذا الناس كلهم في جانب واذا هو بمفرده في جانب ... هو وحده الذي يدين بدين جديد بينما الدنيا كلها: اهله وعشيرته وشعب بلده وامّته وحتى الفرس والروم والهنود كانوا لا يرون كما يرى هو، ولا يشعرون له بوجود ... هذا موقف النبي وهذا موقف العالم. 

رجل اعزل من كل سلاح، سلاحه العزيمة وصلابة الايمان امام عالم تدعمه قوة العدة والعدد، وتؤازره حرارة عقيدة قديمة شب عليها وورثها عن اسلافه، واتخذت لها في قرارة نفسه واعماق تاريخه جذورا ليس من السهل على اول قادم اقتلاعها ... فالنبي الكريم هو ذلك القادم الذي يريد ان يقتلع تلك الجذور.  

اذن هناك مبارزة بين فرد اعزل وبين عصر بأسره يزمجر غضبا: عصر زاخر بأسلحته ورجاله وعقائده وفقهائه وعلمائه ومشاهيره وتقاليده وماضيه ومجده وتاريخه ... هذه المبارزة الهائلة! من يستطيع ان يقدر عليها غير نبي؟ ! . على ان المعجزة بعد ذلك ليست في مجرد التحدي. وليست المعجزة كذلك في مجرد شفاء الأصم وابراء الأعمى، وانما المعجزة حقيقة هي ان يخرج مثل هذا الرجل الوحيد الاعزل من هذه المعركة المخيفة، ظافرا منتصرا. فإذا هذا العالم العتيد كله يجثو عند قدميه مستسلما. وقد انقلبت سخريته خشوعا طويلا، وقهقهته صلاة عميقة ...

كيف ربح الرجل الصراع؟ وما هي وسائله؟ ... هل كانت له خطط واساليب وقوة من شخصه مكنته من النصر؟ ... قناعتي ان لشخصية النبي لها اثر كبير!  

وهنا معنى الاصطفاء. فالله اختار من بين البشر رجلا له كاهل قوي يتحمل عبء الرسالة ... انه رسول عهد اليه تبليغ الدين والعمل على اذاعته بين الناس بالوسائل التي يراها الرسول كفيلة ببلوغ الغاية. اي بالوسائل البشرية وليس عن طريق الفرض على الناس كما تفرض عليهم الزوابع والعواصف والامطار. ولكنه يجب دائما ان يخلي بين – الدين – وبين – الناس – حتى يتغلغل الدين من تلقاء نفسه في نفوسهم بجمال نوره وحده. ولكن اعين الناس لا ترى احيانا، فهم يعيشون في اعماق ماضيهم كالاسماك في اغوار المحيطات.  

هنا تبدأ متاعب النبي، وهنا تظهر المعجزة الحقيقية في فتح ابصار ملايين البشر على نور طالما جحدوا وجوده، نور الدين الجديد الذي اتى به.

وهنا ينبغي التسائل كيف استطاع النبي ان يبري الناس ما يرى وان يقنعهم بما جاء به ؟

لقد عرف النبي ان الناس لا تقتنع بالكلام وحده وانما يؤثر فيهم الفعل والمثل ... ان الناس يوم ايقنوا ان  محمدا لا يسعى الى غنى ولا الى ملك وانه يريد ان يبقى فقيرا وان كل تلك المخاطر والهوان الذي يتعرض اليه، يناله من سفهاء القوم واكابرهم.

وان كل ذلك الجهاد الذي ملأ به حياته بأكملها –انما هو سبيل (العقيدة) التي يقول لهم عنها– منذ ذلك اليوم الذي اجتمع فيه كبراء امته وعرضوا عليه ثروتهم ووعدوه ان ينصبوه عليهم ملكا، على شرط ان يتركهم على دين آبائهم، فرفض المال والمجد والسلطان وابى الا شيئا واحدا (ان يؤمنوا معه بفكرته)

عند ذاك ادرك اولئك القوم جميعا ان الامر جد لا هزل،  وانهم امام رجل لا ككل الرجال وانه هو ذلك الانسان الذي لا يغويه في الحياة شئ ولا يعيش الا من اجل (فكرة) لا تقوّم بمتاع من امتعة هذه الدنيا و(جمال) يضحي في سبيله بخير ما في الحياة.  

وامام هذا الرجل اخذ الناس يفكرون مليا، وثبت لمن كان قد ارتاب في امره ان مثله لا يمكن على الاقل ان يكون افاقا يعمل لمنغم، انما هو رجل صادق مخلص لا مطمع له من تلك المطامع التي يسعى اليها الناس في هذه الدار ... عند ذاك بدأ كثير من الناس يجلسون اليه ويصغون الى كلامه ... فوسيلة –النبي– الاولى وخطوته التي نزل بها الميدان هي اقناع هذا الخصم الصاخب انه مجرد من الغايات الدنيوية،  وهنا كانت قوته ... فان امضى سلاح في يد رجل يريد ان يقارع البشر هو ان يواجه البشر بيد خالية من مطاوع البشر ...  

ولكن هذا لا يكفي، فالناس قد تقتنع بأمانة النبي وقد تستمع الى ما يقول ولكنها لا تستطيع ان تنبذ في يوم وليلة كل ماضيها لتؤمن بهذا الكلام الجديد ... ان صدر الجماهير  كالمحيط العميق ذي الماء الكثيف. يدفع الى سطحه كل جسم غريب ولا ينفذ الى اعماقه الا شئ ذو وزن. وان الناس لشديدة الحرص على ما تسميه كنوز تراثها وتقاليدها، فما ادراهم ان هذا الكلام الجميل الذي جاء به هذا النبي ليس الا بضاعة زائفة ووهما خلابا لعب بلب هذا الرجل الامين بسبب مسّ ومرض.

فكيف يرمون بكنوزهم ويتبعون حلمه؟ لقد وضعت المسالة وضعا آخر، واتخذت الحرب ميدانا جديدا. ماذا يصنع النبي؟ ... لا بد له من ان يبدد ضباب الشك المخيم على الاذهان حتى يصل اليها نور الدين ... وهنا صفتان لازمتان: الصبر والمثابرة، فان العاقبة في الحرب لمن صبر وصابر وثابر ! ، وان امامه لخصما جديدا وهو الشك الذي يقوم الان في رؤوس الناس، وما هو بشك رجل واحد انما هو شك امة طامية ! . 

ولقد جاهد الرسول فعلا في كل لحظة من لحظات حياته الى ان استطاع ذات يوم ان ينقل العقيدة التي في قلبه حارة قوية الى قلوب الناس جميعا، وهنا كان النصر الاخير وتمت المعجزة وتمكن هذا الرجل الواحد ان يضع العالم في قبضته ويخضعه لفكرته ويطبعه بسيرته ويدخل الى عقله نور الهداية وصدق الأيمان.

من كتاب تحت شمس الفكر لمؤلفه توفيق الحكيم

للمزيد: www.alattaronline.com

 Back Home Next