الامام الرضا وكيف عاش العراقيون في العصر العباسي؟
مقتبس من ( العصر العباسي الاول) لشوقي ضيف
بقلم
الدكتور رضا العطار بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
لا يخفى على احد ان معاوية بعد ان استحوذ على الخلافة الاسلامية، نكث العهود والمواثيق التي ابرمها مع الامام الحسن (ع) وبدأ يفتك بالعلويين
بدافع حقده الدفين للأمام علي بن ابي طالب، فكان يصلبهم على جذوع النخيل،مما حدا بالعلويين ان يتحشدوا مع الموالي المضطهدين اصلا في خندق واحد خاصة بعد ان اقدم الامويون على جريمة قتل
الحسين، حفيد رسول الله في كربلاء عام 61. ولهذا السبب ولأسباب اخرى لا حصر لها، اقدم جيش الموالي والعلويين الى منطقة الزاب عام 132 بقيادة ابو مسلم الخرساني واسقط دولة بني أميّة،
دولة الظلم والعدوان. ولم يأسف عليها احد.
وبذلك انتقلت عاصمة الخلافة الاسلامية من الشام الى بغداد، لكنها اصبحت، بشكل غير متوقع في قبضة العباسيين. وبدلا من ان يكافؤا
العلويين على معاضدتهم اياهم في بناء صرح دولتهم، انقلبوا عليهم بالفتك والتقتيل. فكان الخليفة المنصور يبنيهم وراء جدران المنازل احياء ليموتوا خنقا، وكأن صدور هؤلاء الحكام
(المسلمين) كانت سركا من الضواري، كما كان من جرائم خلفه هارون الرشيد، قتل الزعيم الروحي للعلويين، الأمام موسى بن جعفر (ع) بعد سجنه سنوات عدة
وهكذا اتسمت حياة ابنه الأمام الرضا (ع) بالطابع المأساوي، فما كانت المرارة تفارق روحه خلال الازم التي عاشها بين حكم هارون الرشيد
وبداية حكم ابنه المأمون. فقد شهد الامام ضروبا من المحن والبلايا التي لحقت بأبيه الامام المظلوم موسى بن جعفر الذي كان وجوده مبعث قلق للحكم العباسي الغاصب للخلافة ومصدرا محركا
لهواجسه رغم موقف الامام المسالم منه
كان الامام الرضا يقابل تلك الاحداث الدامية باوجاع قلب كسير، تلك التي التهمت الكثير من اهل بيته
وابناء عمومته الميامين. وقد كُتب على الامام ان يعاصر فاجعة ابيه دون ان يملك القدرة على التخفيف من حدتها، حيث لاسبيل له الى ذلك. حتى تحولت الحياة بالنسبة اليه واقربائه واتباعه
الى جحيم. فقد لاحقتهم نفحة الحقد العباسي في ممارسات القمع والملاحقة، لا لسبب الاّ كون العلويين لم يعترفوا بشرعية حكمهم، معتبرين انفسهم احق منهم بالخلافة الاسلامية.
ولما لم يكن في مقدورهم تحمل هذه الحالة، ترك بعضهم الاوطان هربا من ثقل الهوان وغدر السلطان والخوف من اذى الاوغاد هائمين على وجوههم
الى منافي نائية، انتهت اخيرا في مناطق الهند الصينية. أقرأ ! (دور حضرموت في نشر الاسلام في بلدان الهند
الصينية لكاتب السطور www.islamicbooks.info )
وبعد هلاك الرشيد وانقضاء ايام الأمين واستلام
المأمون مقاليد الحكم، بدأت رياح الأضطهاد تهب على الامام من نوع جديد.
لقد شاء الخليفة المأمون
ولظروف سياسية غامضة ان يجعل من الرضا وسيلة يساوم بها مع الشيعة في خراسان والعباسيين في بغداد من جهة، ومع العلويين في كل مكان من جهة ثانية.
وعندما طلب الخليفة من الامام القبول بولاية العهد، التمس اليه الامام ان يعفيه من هذا التكليف، فقال له المأمون : ( انك يا ابا الحسن
تتلقاني ابدا بما انا كارهه، وقد أمنت سطوتي ! فبالله ان تقبل ولاية العهد والاّ ضربت عنقك ) هذا رغم ما كتبه المأمون بخط يده في دفتر مذكراته العبارات التالية:
لاحظت في شخصية الرضا السجايا الحميدة مثل
الفضل العميم والعلم الغزير والزهد الخالص والتخلي عن متاع الدنيا وقربه الى قلوب
الناس، فالالسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة،
وقد تجلى فيه المقام المحمود منذ ان كان شابا يافعا |
كان على المأمون بعد ان استقر له الحكم ان يفكر في
ولاية العهد لشخص كفؤء موثوق به دقيقا في الاختيار عارفا بظروف الاوضاع وقادرا على السيطرة على مشاعر الشيعة في خراسان والشعور العباسي في بغداد. ولهذا الهدف اختار الامام الرضا
لولاية العهد وفرضها عليه فرضا. لكن الامام عرف بان المأمون يريد ان يجعل من شخصه جسرا بينه وبين الفئات المتناحرة. ولم يكن امتناع الامام محض زهد وتقوى، كيف لا وهو يرى نفسه احق
بالخلافة، لكنه كان واثقا من عدم شفافية الموضوع وانها لعبة من المأمون، يريد ان ينفذها على اكتافه. وان عدم قبوله للخلافة سيعرضه للنقد من قبل اتباعه لأعتقادهم بان الخلافة هي
بالاساس نص ثابت لآل البيت (ع) وعليه ان يقبلها. لكن اصحاب الامام كانوا على درجة عالية من الوعي السياسي بنحو لا ينطلي عليهم خدعة المأمون.
وروي عن الامام انه شوهد مرة وقد رفع يديه الى
السماء بعد الصلاة قائلا:
اللهم انك تعلم اني مجبر، فلا تؤاخذني كما لم تؤاخذ نبيك يوسف بن يعقوب في توليه منصب ولاية
مصر لدى فرعون |
وعندما قبل الامام ولاية العهد على مضض، أمر
المأمون ان تقام المراسيم اللازمة في احتفال مهيب في خراسان. دعا اليه جميع قواد الجيش والوزراء والقضاة ورؤساء القبائل. واجلس الامام الرضا على عرش الخلافة العباسية وعليه الاخضر
والعمامة والسيف. ثم امر المأمون الحاضرين، مبايعة الرضا خليفة من بعده. فتم له ذلك. ثم طلب من الامام ان يلقي خطبته. فقام ولي العهد وشكر الحاضرين وقال:
بسم الله الرحمن الرحيم،
الحمد لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمته ولا راد لقضائه، يعلم ما تخفي الصدور وصلي الله على محمد وعلى اله الطيبين.
اقول ان امير المؤمنين وخليفة المسلمين المأمون عضده الله بالسداد ووفقه للرشاد وقد عرف حقا ما جهله الاخرون فوصل ارحاما
قطعت وآمن انفسا فوعت، متبقيا رضى رب العالمين وسيجزي الله المنصفين ولا يضع اجر المحسنين.
وان الخليفة المأمون قد اوكل اليّ ولاية العهد من حل عقدة امر الله بشدها للسيطرة على الفلتان اجتنابا من شتات الدين وما
ادري ما يفعله الله بي وبكم، ان الحكم لله وهو خير الحاكمين |
والجدير بالذكر ان المؤرخ الانكليزي الشهير انتوني
نتنج يذكر في كتاب العرب ان هذه الخطبة لم تعبر عن رأي الرضا، انه كان قد كتب من قبل المأمون نفسه.
وعند انتهاء الامام من القاء الخطبة امر الخليفة
بضرب سكة النقود تحمل اسم الرضا مشفوعا بلقب السلطان على الدرهم والدينار. ثم امر شاعر القصر ابو نؤاس ان يقول شعرا، فأرتجل ينشد:
في فنون من الكلام النبيه |
|
قيل لي انت اشعر الناس طرا |
يثمر الدر في يدي مجتبيه |
|
لك من جوهر الكلام بديع |
والخصال التي تجتمعن فيه |
|
فعلام تركت مدح ابن موسى |
كان جبرائيل خادما لأبيه |
|
قلت لا استطيع مدح امام |
وعندما بدأ الامام يمارس صلاحياته، اكتشف ان نهج
العباسيين في الحكم يتعارض مع تعاليم الاسلام قولا وعملا، فأموال المسلمين تستباح ودمائهم تهدر واعراضهم تنتهك. الى جانب ذلك يعيش الخلفاء ومن لف لفهم في بذخ وترف كافر في الوقت
الذي يعيش سواد الشعب، ومعظمهم من طبقة الفلاحين تحت خط الفقر.
لقد كان موقف الامام تجاه السلطة موقفا سلبيا يتسم
بالدعوة الى الانفتاح على الرسالة المحمدية وتطبيق مبادئها السامية ومحاولة تعديل مسارها.
لكن لم يمضي وقت طويل على تولي الامام ولاية العهد
حتى هاجت بغداد العباسية وماجت وعمت الفوضى ارجاء البلاد. (كما حالنا اليوم!) احتجاجا على تنصيب الرضا وليا للعهد.
وبغتة تفاجئ العالم الاسلامي بوفاة الامام الرضا
(ع) --- وهنا يشير هاجس الحدس بان المأمون هو الذي امر بدس السم في طعام ولي عهده.
وقد رثى الامام الشاعر العلوي، رئيس الدولة
الحمدانية، الأمير سيف الدولة ٌقوله
وابعدوا بغضه من رشدهم وعمو |
|
باتوا بفضل الرضا من بعد بيعته |
ولا عين ولا فربى ولا رحم |
|
لا بيعة ردعتهم عن دمائهم |
وفي الختام اقول: ان سياسة الدولة العباسية التي
دامت زهاء خمسة قرون قد اتسمت بنزعة الفردية البغيضة وافتقدت الى ابسط حقوق البشر وقواعد العدل الاجتماعي التي نادى بها أئمة المسلمين العظام.