اديب المانيا الكبير جوته، يعظّم الأسلام
مقتبس من (جوته والعالم العربي) كاتارينا سرمزن ترجمة عدنان عباس علي
بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
من دواعي سروري ان انعقد في مدينة فيمار، عاصمة الادب الكلاسيكي الالماني
ومسقط رأس جوته الذي عاش خلال القرن
الثامن عشر، مؤتمر اطباء العيون لعموم المانيا عام 1963 اي خلال مرحلة دراستي هناك، حيث اتيحت لي الفرصة الذهبية لزيارة منزل الشاعر الشهير، ورؤية اثاثه والأدوات التي كان يستعملها،
وقد سعدت حين شاهدت آيات متقطعة لسورة (قل اعوذ برب الناس ---) وهي السورة الأخيرة من القرأن الكريم وقد خطت بيد جوته نفسه، محاولا فيها محاكاة الخط العربي، وهي لا زالت محفوظة ضمن
اوراقه. وانه هوالذي قال يوما: (اننا جميعا، نحيا ونموت مسلمين).
ان علاقة جوته بالاسلام وبنبيه محمد (ص)
ظاهرة من اكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر، فكل الشواهد تدل على انه كان في اعماق نفسه شديد الأهتمام بالاسلام. وان معرفته
بالقرآن الكريم كانت اوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى.
ولم يقتصر اهتمامه بالاسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل.
فقد نظم وهوفي سن الثالثة والعشرين قصيدة رائعة اشاد فيها بالنبي العربي الكريم. وحينما بلغ السبعين من عمره اعلن على الملأ انه يعتزم ان (يحتفل في خشوع بليلة القدر، تلك الليلة
المقدسة التي انزل فيها القرآن على النبي). وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة اعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق عن احترامه واجلاله للأسلام. وهذا ما نجده قبل كل شئ في ذلك الكتاب
الذي يُعد الى جانب فاوست من اهم وصاياه الادبية للأجيال القادمة. ونقصد به (الديوان الشرقي) . بل ان دهشتنا لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في اعلانه عن صدور هذا الديوان
وقال فيها انه هونفسه (لا يعارض ان يقال عنه انه مسلم).
واذا تسائلنا عن اسباب هذا الموقف الايجابي الرائع من الاسلام، ينبغي علينا بادئ ذي بدء ان نذكر بان الظواهر الدينية
قاطبة كانت تحظى دائما بأهتمامه الشديد، وان مجمل نشاطه كان يقوم على دوافع ومعتقدات دينية خالصة. اما عن الاسلام فلا ريب في ان اهتمامه به قد ارتبط بمساعي عصره وتوجهاته. فحركة
التنوير التي سادتها فكرة التسامح، رأت اهم واجباتها ان تبين قيمة الاديان الاخرى غير المسيحية. ومن ثم بدأت انظار دعاة التنوير تتجه الى الاسلام. لسبب بسيط هو انهم كانوا اكثر
الماما به. ولان معرفتهم في ذلك الحين بديانات الهند والشرق الاقصى لم تصل الى الحد الكافي للكشف عن حقيقتها الفعلية.
ولا خلاف في ان جوته قد شارك منذ البداية بعض مفكري حركة التنوير في نظرتهم المتفتحة وروحهم المتحررة. وتشهد بذلك
حرارة عباراته التي تنطق بتمجيده له. واذا اردنا تقدير ما تنطوي عليه هذه العبارات من صلة حميمة وصلابة وشجاعة فيتعين علينا ان نعترف ولوعلى وجه التقريب على موقف معاصري الشاعر من
الاسلام ومدى فهمهم وانصافهم له.
كما يتعين علينا ان نتمثل الظروف التاريخية التي يمكن ان تكون قد اثرت على تصورات جوته عن الاسلام ومشاعره تجاهه
ومدى اهتدائه لهذه التصورات والمشاعر بوحي من احساسه وتفكيره الخاص.
لقد اتخذ الغرب بوجه عام طيلة الفترة الواقعة بين القرنين السابع
والسابع عشر اي على مدى الف عام موقفا عدائيا حيال
الاسلام. ولم تبدأ علامات التحول التدريجي تظهر في الافق الا مع نهاية القرن السابع عشر لان الصراعات التي لا حصر لها بين الاسلام والمسيحية لم تكن تسمح باي نظرة موضوعية بعيدة عن
التحيز. ويكفي ان نذكر هنا ان الاتراك كانوا في عام 1683 لا يزالون يقومون باخر حصار لهم لمدينة فيينا.
واذا كانت قد ظهرت منذ الحروب الصليبية ترجمات للقرآن الكريم في اوربا فان هدفها لم يكن هوالتعريف بالاسلام بل
محاربته والهجوم عليه. وينطبق هذا ايضا على الكتابات الاوربية عن السيرة النبوية الشريفة اذ انطوت كذلك على العداء الشديد. ومعنى هذا ان العصور التي سبقت عصر جوته قد اتسمت باتخاذ
مواقف عدائية من الاسلام والمؤمنين به يمكن رده في المقام الاول الى الخوف الواسع من الاتراك.
وفي عام 1647 ظهرت اول ترجمة للقران الكريم تتصف بشيئ من الحيادية، وهي الترجمة التي قام بها القائم بالاعمال
الفرنسي في مصر – اندريه دوروبيه – من العربية الى الفرنسية مباشرة. واستفاد جوته فائدة كبيرة اثناء كتابته (الديوان الشرقي) من هذه الترجمة التي طبعت ثماني مرات.
ومن الترجمات المختلفة للقران التي كان الهدف منها ان ينتفع بها المبشرون في صراعهم العقائدي مع الاسلام. وكان جوته
قد عكف ابان دراساته القرآنية المبكرة على التعمق في هذه الترجمة كما تاثر بها في انتاجه الادبي تاثرا كبيرا. وفي بداية القرن الثامن عشر نشر بيير بايل معجمه التاريخي الواسع
الانتشار. وكان جوته في صباه قد عثر على معجم بايل التاريخي في مكتبة ابيه فشعر بسبب شغفه الجامح بالمعرفة بانجذاب شديد اليه. وفي هذا الحين نشر بارتيلمي دربيلون موسوعته (المكتبة
الشرقية). وعلى الرغم من غزارة المعلومات التي وردت عن بلدان الشرق، الا انها اتسمت بعدم الانصاف حيال الاسلام.
وقد استفاد جوته من المكتبة الشرقية فترة طويلة من الزمن وبصورة متكررة كما استقى منها الكثير من المعلومات العلمية
والالهامات الشعرية ابان مرحلة (الديوان الشرقي).
واذا اتجهنا بانظارنا صوب المانيا، فلابد ان نذكر في هذا السياق (لايبنتس)
و(لسنج) و(هردر) ، فهؤلاء على وجه
الخصوص قد اقاموا بوحي من تفكيرهم الانساني المستنير بأنصاف الاسلام. كان لسنج بحق –في مسرحيته الشهيرة –اناتان الحكيم– احد الداعين المخلصين الى التسامح الديني. وقد انطلق من
دعوته هذه فاخذ يدافع عن الاسلام، مشيدا به بوصفه ديانة تتصف بالحكمة والعقلانية (Vernunft religion).
كما كان الاديب المعروف هردر قد قام من جانبه باكثر من ذلك، اذ اثنى ثناء عظيما في كتابه المعروف (افكار) على
(حماسة) النبي محمد (ص) بخصوص ( عقيدة التوحيد وطريقة عبادته للأله الواحد عن طريق الوضوء والصلاة وعمل الخير ).
كما اعتقد هردر فضلا عن ذلك بالمستوى الثقافي والحضاري الرفيع الذي بلغه المسلمون وجعلهم ينظرون نظرة ملؤها الاحتقار
لما كان عليه عامة الاوروبين من ممارسة الفجور واباحية مقرفة وعادات وحشية. ومن سبل التطهر التي يحرص عليها المسلمون تحريم الخمر واجتناب الربا والميسر.
هكذا نرى في عصر جوته ظهور جهود ومحاولات جادة للنظر للاسلام نظرة اكثر تحررا واقل تحيزا مما جرت عليه العادة في
القرون الماضية. ومع ذلك لا ينبغي ان ننسى ان هذه النظرة لم تصبح اتجاها عاما بل ظلت مقتصرة على افراد معدودين استطاعوا ان يرتفعوا بانفسهم الى موقف عادل ومنصف. فالقلة النادرة من
المفكرين والكتاب الناطقين بلسان العصر هم الذين يستطيع المرء ان يقول عنهم انهم كانوا يسعون الى التغلب على ضيق افق ابناء جلدتهم ويحاولون تنوير عقولهم بغية الارتقاء بالمعتقدات
وتهذيب اساليب التفكير. وفي المقابل ظلت الغالبية العظمى من ابناء ذلك العصر على مواقفهم المفتقرة الى الفهم والتقدير والتعاطف والتسامح.
ان صلة جوته الروحية بالاسلام لم تكن حصيلة الجهود التي بذلتها حركة التنوير وازالة الافكار الخاطئة فحسب بل كان
حصيلة الميل الشخصي الذي كان جوته يكنه (للنبي) محمد (ص) وللأسلام ولهذا فاقت تعبيراته وتصريحاته عن الاسلام كل ما قيل عنه في المانيا حتى ذلك الحين، من الجسارة والتحدي.
وقد توصل جوته في علاقته الايجابية الحقيقية بالاسلام عن طريق اكتشافه لتطابق بعض افكاره الرئيسية مع معتقده
الشخصي مما ايقظ في نفسه التعاطف العميق معه. وقد بلغ هذا التعاطف مع الاسلام حدا جعله يدلي بالاعترافات الحرة الصادقة التي سمعنا رنينها في النبرة الحارة التي انطوت عليها الامثلة
السابقة الذكر.
وعن طريق (هردر) اقبل جوته عام 1770 على مطالعة ترجمات القرآن الكريم.
فنحن نعثر على شواهد بينة لتعاطف باطني غير معتاد مع الاسلام والنبي محمد (ص) .
وقد وضع في هذه الحقبة من حياته اسس التقدير العالي للقرآن (الكريم) الذي ضمّنه جوته وقد بلغ في سن الشيخوخة ديوانه
الشرقي الذي حظي فيه الاسلام والقرآن الكريم باجلال وتبجيل لا سابق لهما.
من كتاب جوته والعالم العربي، تأليف كاتارينا مومزن، ترجمة د. عدنان عباس علي
للمزيد :
www.alattaronline.com