Back Home Next

 جوهر الأخلاق يتلألئ في رسالة الاسلام

من كتاب فيه مصادر مختلفه

 بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف

ridhaalattar@yahoo.com

 لقد حاولت الفلسفات الحديثة كالوجودية والماركسية والبعثية ان ترفع من مستوى الفرد الغربي في مجالات الحياة كلها،  لكنها سرعان ما تهاوت لأنها عجزت من تأمين الأمن  الروحي والاقتصادي للأنسان وقد صدق الفيلسوف الفرنسي روجه غارودي عندما قال: ان اسباب الصراع الأخلاقي وتأثيراته السلبية على المجتمع الغربي تكمن في اعتماده الكلي على المسائل المادية  دون المسائل الأنسانية والأخلاقية.  

لقد نصح  فلاسفة الغرب شعوبها في بدايات عصر النهضة الاوربية للاستفادة من المنظومة الاخلاقية المتجلية في الحضارة العربية في الاندلس ومن فوائدها الروحية فهي تصلح ان تكون الحصن الحصين لأخلاق الشعوب الاوربية، فقد حذروها من التهالك وراء الماديات عندما كانت التكنولوجيا في مراحلها الأولى من التقدم. كان هاجسهم الاكبر ان لا تتعرض مجتمعاتهم الى خطر التفكك الاخلاقي والانحلال الاسري،  وكان في مقدمة هؤلاء الدعاة بعض اعلام الفكر العالمي في القارة الاوربية يومذاك،  من امثال برنادشو في انكلترا وشبلنجر في المانيا  وجورجيو في ابطاليا، حديثا وجان جاك روسو في فرنسا قديما. 

لا يستطيع احد ان ينكر ان الغرب بمدنيته المتطورة قد قدم للبشرية خدمات جليلة لاحصر لها بعد ان استفاد هو بدوره من الحضارة  الاسلامية  ابان نهضته المجيدة قبل الكثر من الف سنة.  فيا حبذا لو تلاحقت الحضارات من خلال الحوار المتبادل بهدف صنع حضارة عالمية ذات روح شرقية وجسد غربي. 

ان جوهر منظومة الأخلاق المتميزة في اداب اهل  البيت (ع) قد دفعت بالكثير من ادباء الشرق المسيحي للكتابة عنها بصورة وجدانية من امثال:

  1. جورج جرداق الكاتب اللبناني الشهير في كتاب – الأمام علي صوت العدالة الأنسانية، 

  2. وبولس سلامه في عيد الغدير، 

  3. وعبد المسيح الأنطاكي في ملحمة الأمام علي، 

  4. وسليمان كتاني في اخلاق وفضائل اهل البيت، 

  5. وركس العزيزي في الأمام علي اسد الأسلام وقديسه - - -

لقد اقام  هؤلاء المفكرين البارزين  جسور التواصل الفكري بعد ان اكتشفوا في هذا الادب القيم اخلاقيات ومثل عليا التي فرضت نفسها عن طريق الحديث من القلب الى القلب لا عن طريق السيف والنار.

والحقيقة ان الفضائل الأخلاقية للمجتمع العربي  لم تكتمل في شكلها النهائي الا بفضل القران,  فمن  ثنايا اياته سطع نور الهداية  بمعانيها حتى تأطرت في اطار حقوق الأنسان فيما بعد.  

يعتبر نبي الاسلام محمد عليه الصلاة و السلام المعلم النموذجي في نشر الاخلاق الفاضلة بين سكان الجزيرة العربية. فحينما جائهم الى يثرب في العام الاول للهجرة رأى القبائل العربية في  نزاع وتناحر لا ينقطع،  خاصة بين قبائل الاوس والخزرج فشرع بعملية الوفاق والمصالحة بينهم، فقد كان العرب يومذاك مثقلين بعادات الجاهلية، كل قبيلة تنظر الى الاخرى بعين الشك والريبة  تعتبرها عدوة لها. لكن نبي الاسلام امرهم بان يتخذ كل مسلم منهم فردا من قبيلة اخرى ويعتبره اخا له... فالمؤمنون في الدين اخوة. وبعدما اصغوا وسمعوا واستوعبوا اقواله ومعانيها جيدا، أطاعوا امره وتبعوه. وبمرور الزمن تحرروا من وزر تقاليدهم البالية واصبحوا مجتمعا متحليا بفضائل الاخلاق. وان ما جاء في سورة الانفال: ( لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) خير شاهد 

لقد اتسمت الدعوة الاسلامية بصفة السلم  بعيدا عن اساليب العنف، فليس بمستغرب اننا لانجد كلمة العنف يرد ذكرها في القرآن قط ---  وعندما وجد الرسول الاعظم ان العلاقات الاجتماعية بين المهاجرين والانصار بفعل خطبه الوعظية في الارشاد والتهذيب قد تطورت نحو الأحسن تجمعهم روح التعاون والوئام وقد تخلصوا من عادات الجاهلية واصبحوا مجتمعا متحضرا، وقتذاك غمرته الغبطة بعدما اتضح له بان جهوده في نشر الاخلاق الاسلامية الحميدة قد تكللت بالنجاح.  

لقد كانت الحضارة الغربية لا تعرف شيئا عن حقوق الأنسان في ماضي الزمان الى ان جائت  الثورة الفرنسية عام  1789...حيث وضع المفكر مانويل سبيس وثيقة حقوق الأنسان المستمدة من مفكري فرنسا العظام امثال  جان جاك روسو وفولتير اللذان باعترافاتهما قد استفادا من المخطوطات الأسلامية التي انتجتها الحضارة العربية  في الأندلس قبل تاريخهم ب 500 عام.

 اما في امريكا فقد قام توماس جيفرسون عام 1789 في ارساء هذه الحقوق وتطويرها والتي افرزت عن صدور الوثيقة العالمية لحقوق الأنسان الشهيرة، ومن هنا يمكن القول ان المنظومة الأخلاقية التي اعلنها الأسلام في القرن السابع الميلادي قد ظهرت في الغرب بعد الف سنة تحت مصطلح  حقوق الانسان. 

ان المبادى السامية التي جاء بها الأسلام قد افضت روح العدالة الأجتماعية على البشر،   فقد ساوى الأنسان الأبيض والأسود والأسمر والأصفروشملهم برعايته، بينما نرى ان وثيقة حقوق الأنسان الفرنسي تخاطب بالدرجة الأولى الأنسان الفرنسي وكذالك الحال بالنسبة لحقوق الأنسان الأمريكي التي تخاطب المواطن الأمريكي اولا.

يظهر الكاتب الأمريكي المعاصر مشيل هاملتون مورغان في كتابه المحفوظ حاليا في مكتبة الكونغرس بواشنطن The Lost History اعجابه الفائق بالمنظومة الأخلاقية لخليفة المسلمين على ابن ابي طالب في قيادته الرشيدة ويعتبرها نموذجا صالحا للأدارة الديموقراطية للحاكم العادل مسترشدا بالتعليمات الأدارية التي بعث بها الأمام الى مالك الأشتر حاكم ولاية مصر قائلا: 

كن برا رحيما واختار الصالحين من القضاة، وابعد كل ما من شأنه ان يثير الرعب والخوف في قلوب الرعية،

واعلم ان بيت المال هو حق الجميع ولا يجوز الأفراط به، واجعل رعايتك تشمل اليتامى والمساكين وابن السبيل

وعليك ان تساوي بين الناس في الحقوق والواجبات رغم تفاوتهم في اللون واللغة والعنصر والعقيدة الدينية 

وان المسلمين اخوان لك في الدين لكن عليك ان تعامل غير المسلمين باللطف والاحسان فهم متساوون في الحقوق والواجبات.

وفي هذا السياق يقول الكاتب اللبناني الشهير جورج جورداق ذو الأطلاع الواسع في ثقافات العالم: لقد وجدت في شخصية علي بن ابي طالب علما شاملا ونبوغا ساحرا وبلاغة اسرة وخلقا نقيا ومثالا رائعا في قيادة الأمة،  انه كان  قويا في ايمانه ووداعته وعدله وزهده وتقواه،  هذه هي الآخلاق الراقية التي يتطلبها الحاكم العادل الكفوء في قيادة مجتمعه المتطلع الى الأزدهار.

ومن بيجين عاصمة الصين الشعبية يخبرنا الباحث العراقي هادي العلوي ان الرئيس ماوسيتونغ قد استرشد باستراتيجية علي بن ابي طالب خليفة المسلمين اثناء حرب التحرير الشهيرة عام  1947 بعد ان درسها بامعان وعرف انها  مفعمة بالدرس البليغ والرؤيا المتبصرة التي يتقدم فيها سلطان العقل على جبروت القوة، واضعا امام النزعة العسكرية خطوطا حمراء تحول دون الانخراط في القوة المتهورة، فقد كانت فلسفة الامام علي تؤكد على ضرورة انتهاج سياسة اللين والاسترضاء للمعارضن، لا سياسة المخاصمة والمقاتلة - - - ثم تهذيب اسرى الحرب عقائديا وتربيتهم اخلاقيا -  فبهذا غدا الخليفة علي بن ابي طالب في نظر القائد الصيني ماتسيتونغ نموذجا ساطعا للحنكة السياسية الرائدة, ملما بعلم التعبئة الحربية، وعلى اثر ذلك قرر تطبيق خطته على ارض الواقع التي ادت به في النهاية  الى تحقيق النصر الحاسم.  

وفي اخلاق الامام علي يقول الاديب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة:

كان علي بن ابي طالب من عظماء البشر انبتته الارض العربية.

ففي شخصه فجرت الدعوة الاسلامية ينبوعا من المواهب

ولم يكن الامام علي مجرد بطل في ميادين الحرب فحسب بل انما كان بطلا في صفاء البصيرة وطهارة الوجدان وسر البيان وعمق الانسانية وحرارة الايمان،

وانه ليستحيل على مؤرخ مهما بلغ من الفطنة ان يكون قادرا على وصف شخصية عظيمة من معيار علي بن ابي طالب حتى لو كتب الف صفحة, ذلك العملاق الذي لم تسمعه اذن ولم تبصره عين من قبل

وفي ختام حديثي اقول كان الامام علي صاحب رسالة انسانية خالدة انبثقت من معين مكارم الاخلاق ولهذا بقي ذكره الحسن كالشعاع المنير ساطعا يضيئ درب الهداية والصلاح للبشرية جمعاء ماضيا وحاضرا ومستقبلا،  فلا عجب ان اصدرت سكرتارية الامم المتحدة،  لجنة حقوق الانسان في نيويورك عام 2002 برئاسة امينها العام  كوفي عنان قرارها التاريخي هذا نصه :

"يعتبر خليفة المسلمين علي بن ابي طالب اعدل حاكم ظهر في تاريخ البشر"

مستندة بوثائق شملت 160 صفحة باللغة الانجليزية.

حقا كان الامام علي في ادارته لشؤون الدولة الاسلامية متحليا بثوابت العدل الاجتماعي الذي هو ركن اساسي في منظومة مكارم الاخلاق، ولهذا دعت المنظمة العالمية لحقوق الانسان حكام دول العالم بالاقتداء بنهج الامام علي الانساني.  

وقال في الاخلاق :

اذا رايتم خيرا فاعينوا عليه وان رايتم شرا فاذهبوا عنه

نحن نعيش في المجتمع المتمدن بدستور اخلاقي نأخذ 99% منه من العائلة التي نشأنا فيها والشارع الذي مارسنا فيه اختبارات الطفولة، ومن زملاء المدرسة والحرفة، ومن هؤلاء ممن تحملنا حياتنا الاجتماعية او السياسية على الاحتكاك بهم. ونحن نزن الرذائل والفضائل بميزان هذا المجتمع ونأخذ بالقيم التي يعينها لنا.

وكثيرا ما نأخذ بقيم واوزان فاسدة لان المجتمع الذي نعيش فيه فاسد وكثيرا ما يخفي علينا هذا الفساد فنندفع في التيار لا نقف ولا نتردد، ولكن احيانا نقف ونتردد، وعندئذ يكون التقلقل والبحث الحثيث، الذي يؤدي الى ظهور قيم واوزان جديدة.

والقيم اما ان تكون اجتماعية واما ان تكون بشرية. واذا كان المجتمع راقيا كانت معظم قيمه انسانية. يستنكر الخطف والقتل والسطو والسرقة الى جانب محاربته مظاهر الفقر والجهل والتعصب وصيانة الصحة وتنوير الاذهان بالمعارف وتوزيع الثروة بحيث لا يكون في مجتمعنا فقر مؤذ ولا ثراء كافر.  

اما اعتبارات القيم الاجتماعية فتنحصر في اقتناء القصور والسيارات والاراضي والتباهي بالمنصب والجاه والالقاب والتزين بالجواهر والتفاخر بالولائم ومظاهر الاعراس ونحو ذلك. و نزيد الايضاح ونقول: لو فرضنا ان صديق لنا قد مات وترك زوجته وجملة اولاد. فالرجل الذي تغلب عليه القيم الاجتماعية سيسير خلف الجنازة ويحضر الصلاة و مجلس الفاتحة ويعزي اسرة المتوفي وقد يبالغ في اهتمامه فينعاه في الصحف المحلية، ثم يعد نفسه قد انجز ما عليه من الواجبات. 

ولكن الرجل الذي تغلب عليه القيم الأنسانية قد يهمل قسما من هذه المراسيم لكنه يبحث عن حال الارملة واولادها. فاذا وجد انهم في حاجة الى المال تبرع من جيبه الخاص دون ان يبوح بسره لأحد. ثم هو يرعى الاولاد بالنصيحة ويهيئ لهم وسائل التعليم ويرعى العائلة تلك الرعاية الاقتصادية ويفضي عليهم قسطا من العطف الأجتماعي دون الشفقة، هذه الرعاية التي فقدتها الاسرة بموت عاهلها. ومن هنا نعرف الفرق الهائل بين الضمير الحسن الرحب الحي، وهو الضمير الانساني المجدي وبين الضمير الاجتماعي الراكد غير المجدي.  

ومن هذا المثال نستطيع ان نتوسع ونقول: ان للمال والصحة قيمة بشرية مطلقة. ولكن المال اذا ما تجاوز حدا معينا، يصبح له قيمة اجتماعية فقط.  والشاب الذي ينشد في الفتاة جمالها وثقافتها انما ينشد قيمة انسانية ولكنه عندما ينشد ثرائها وموقعها في وسطها انما ينشد قيمة اجتماعية. ومن هنا ايضا نقول ان للزواج قيمة بشرية ولكن ابهة مراسيم الزواج، وجهاز العروس ومكانة ابيها ونحو ذلك تعد من القيم الاجتماعية. وكثيرا ما تستهلك القيم والاوزان الاجتماعية مجهودنا وصحتنا كما تحول بيننا وبين القيم البشرية. كأن نندفع في جمع المال فنفقد صحتنا قبل الخمسين لان المجهود في هذا الجمع كان اكبر مما نتحمل. وفي الوقت نفسه ربما حال هذا الجمع دون العناية بترقية شخصيتنا وتنوير اذهاننا.وهما من القيم البشرية.  

كثير من الناس يغمرهم المجتمع بقيمه فلا يرتفعون فوقها، ولذلك نجد ان كل اهتماماتهم منصبة في المظاهر كالقصر الفخم او العيش الباذخ كل ذلك من شأنه ان يزيد في همومهم، يعرضهم الى مشاكل نفسية ---  ومن هنا نتذكر الرجل المحموم بالنجاح ينفق كل مصادره الحيوية في التفوق في حرفته لكنه يفشل في ادارة عائلته اوالمشاركة الايجابية في مجتمعه ولا يدري ان النجاح كان يجب ان يكون كليا يشمل الاسرة والمجتمع والمهنة والفراغ. وكثير من الامراض النفسية المنتشرة في ايامنا الراهنة تعزى الى الاندفاع في هذه القيم الاجتماعية دون التفكير في القيم الانسانية.  

و (الرجل الاجوف) انما هو رجل قد غمره المجتمع بقيمه واوزانه ومظاهره، فهو بعكس الامبراطور ماركوسي حين قال: ان اعظم ما يشتاق اليه ويتمناه في هذه الدنيا كسرة من الخبز مع قطعة من الجبن يأكلها تحت ظل شجرة.

فالحياة الفنية الصحيحة تقتضي التميز بين القيم. وان نجعل القيم البشرية تعلو على القيمة الاجتماعية ويكون لها المقام المحمود، سواء في انفسنا او في غيرنا. والرجل الطيب هو في النهاية الرجل الانساني وليس الرجل الاجتماعي، اي هو الرجل الذي يتعمق ويصل الى الجذور ---  وعندما نتأمل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام نجد ان كل اهتمامه كان منصبا على القيم الانسانية، وهي جوهر الأخلاق في الاسلام.