المعتزلة : من هم، ومتى ظهروا، وكيف تبلورت عقائدهم ؟
مقتبسات من كتاب العصر العباسي الثاني لشوقي ضيف
بقلم الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
في بداية القرن الثاني للهجرة. برزت في العالم العربي الاسلامي فرق سياسية فكرية مختلفة،
كانت تغذي الشارع العربي من حين لاخر، ومن هذه الفرق كانت المعتزلة.
فمن المعروف ان الدولة الاموية حاولت استخدام الدين وعقائده لصالحها الى ابعد حد ممكن الى
درجة انها اوعزت الى المرتزقة من فقهائها باصدار فتاوى عنجوقية، اسندوها الى احاديث نبوية كاذبة، خدمة لمآربها السياسية على غرار:
الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم ملك.
اسمع لحاكمك واطعه وان ضربك واخذ مالك
لا تعصوا اولي الامر منكم، فان عدلوا فلهم الشكر وان بغوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر، فهو
امتحان من الله، يبتلي به من يشاء، فعليكم ان تتقبلوا ذلك بالصبر والاناة، لا بالثورة.
كما اوعزوا لهم ان ينشروا عقيدتي (الجبر والارجاء) وتسييس الدين الى حد كبير لصالح
الامويين، وهو ما درج عليه حكام العرب منذ ذلك الوقت حتى الان. فالعقيدة الاولى (الجبر) من شأنها ان تبرر الجرائم البشرية التي ارتكبتها الدولة الاموية. والعقيدة الثانية (الارجاء) من
شأنها ان تصد المعارضة وتتهمهم بالكفر.
المعتزلة فرقة سياسية دينية
حالها حال الخوارج، خرجت من ركام الزلزال السياسي العنيف الذي قام به الامويون، وجاءت نتيجة للانشقاق الذي حصل في صفوف تيار (اهل العدل والتوحيد) - - فقد بدأ هذا التيار بالمعارضة
الفكرية السياسية للدولة الاموية – وكان هذا التيار هو تيار النخبة المثقفة الذي انتج كبار المؤرخين وكتاب السيرة والرواة والقضاة وغيرهم – ثم تحول الى تيار سياسي واضح المعالم. كما كان
اهم ما في خطابه السياسي (اعلان الثورة على الحاكم الظالم ومحاربة الفساد السياسي والمالي والاداري – وكان الحسن البصري الفيلسوف السياسي والمنظر الثوري لهذا التيار، هو الذي وضع التاريخ
السياسي العربي (منهاج اشتعال الثورة)
متى تكون ؟ واين تكون ؟ وكيف تكون ؟ وضد من تكون ؟ ومن يقوم بها ؟ - - الا ان تيار اهل
العدل والتوحيد كان تيارا فكريا محضا على ما يبدو اكثر منه تيارا ثوريا تطبيقا – فمن الجائز ان الامويين ارادوا فكرا لا علاقة له بالشارع السياسي – ومن هنا بدأ الانشقاق في صفوف هذا
التيار وخرج منه قادة سياسيون وثوريون اشتركوا في ثورات فشلت كثورة عبد الرحمن بن الاشعث وغيره - - كما خرج منه قادة سياسيون فكريون كعيلان الدمشقي وواصل بن عطاء وهما اللذان اسّسا تيار
المعتزلة الذي اضاف الى الشارع العربي حزبا سياسيا فكريا جديدا كان له اثره الكبير على حركة الثقافة العربية الاسلامية لزمن طويل – وكانت هناك جانب فكري ديني كبير في فكر المعتزلة تتمثل
في اصولهم الفكرية الخمسة:
العدل-
التوحيد –
الوعد والوعيد –
المنزلة بين المنزلتين –
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لكن فكر المعتزلة لم يقتصر على الجانب الديني والعقائدي فحسب ولكن تعداه الى الجانب السياسي
– فالاصل الخامس من اصولهم وهو (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) لم يكن يُمارس بالغباء الديني المتطرف الأعمى، كما الذي يمارس اليوم في بعض المجتمعات العربية – وهو اقتصار الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر على حمل العصي والدوران في الشوارع لضرب النساء الكاشفات عن وجوههن وضرب الرجال الذين لا يغلقون حوانيتهم في اوقات الصلاة ويهاجمون المحلات التي تبيع ادوات
الزينة والثياب على اخر مودة ويمنعون بيع الاشرطة والافلام العربية ويحرمون التدخين ويؤكدون على حلق الشوارب واطلاق اللحى وتقصير الثياب وغير ذلك من الممارسات المتخلفة الساذجة.
لقد كان الامر بالمعروف والنهي
عن المنكر مركّزا على الجانب السياسي في فكر المعتزلة – وكان هو الاساس الامتن في نظريتهم السياسية في الحكم والحاكم والتي اقلقت الدولة العربية – فاذا كان السنة والشيعة قد
اكتفوا بتقويم الحاكم باللسان والقلب – فان المعتزلة أقرّوا بتقويم الحاكم بالسيف، طبقا لقول القرآن (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى امر الله).
ودور المعتزلة السياسي / العقلي البارز يظهر لنا عندما عملوا فوق الارض وتحت الارض واتخذوا
لفرقتهم جانبا سياسيا تنظيميا سريا – واعتبروا ان الامر بالمعروف السياسي وليس الاجتماعي – والنهي عن المنكر السياسي وليس الاجتماعي ايضا - - - فهي (اشرف من جميع ابواب البر والعبادة) –
واعتبروا كذلك ان العمل السياسي فرض كفاية اي يخص الامة جمعاء وليس فرض عين فردي يخص افراد معنيين – ومن هنا ضموا في تنظيمهم الموالي (المسلمون من غير العرب) الى جانب العرب وكل من يؤمن
بعقيدتهم، وكأن فكر المعتزلة للجميع وليس للعرب وحدهم – كما كانت تعمل الخوارج – وهم بذلك قد وقفوا ضد سياسة الدولة الاموية القومية العربية العصبية المتعصبة للجنس العربي دون غيره –
وكان الموالي في المعتزلة من ابرز فرسانها واكثر اعلامها وعلمائها نشاطا وعطاء.
ويلخص الخطاب السياسي العقلاني المعتزلي
بالنقاط التالية :
رفض العصبية العربية القومية.
رفض النزعة الشعوبية المتعالية.
المناداة بالوحدة العربية الاسلامية لا على اساس قومي عنصري ولكن على اساس
حضاري متميز.
استثمار عقلانية الاسلام الذي هو خلاصة الحضارة الاسلامية.
الابتعاد عن الغيبيات واعتبار العقل ابو الاصول
اعتبار (الاقتصاد) هو اساس ارتقاء الشعوب – ومن هنا عمل معظم زعماء
المعتزلة بالتجارة والحرف اليدوية – فكان زعيمهم واصل بن عطاء يعمل في صناعة الغزل، ومحمد بن سيرين تاجر اقمشة
الاشتراك في كل ثورة ضد الظلم والطغيان واستئثار السلطة والفساد المالي
والسياسي والاداري – وهم القائلون (لا يجوز لمسلم ان يتهاون مع ائمة الضلالة وولاة الجور فعليه ان يعارضهم في ذلك) - - فاشتركوا في عدة ثورات ضد السلطات الغاشمة، فاشتركوا في ثورة ابن
الاشعث ضد الحجاج وفي ثورة زيد بن علي ضد هشام بن عبد الملك، وفي ثورة محمد بن الحسن (النفس الزكية) ضد الدولة الاموية وفي ثورة ابراهيم بن الحسن ضد الخليفة العباسي المنصور،
ومن هنا نرى ان المعتزلة كانوا قلب الشارع العربي الاسلامي فكرا وتنظيما وعملا سياسيا واعيا
ومخلصا خلال فترة طويلة من اهم الفترات السياسية في تاريخ المسلمين.
ومثلما ان المعتزلة خرجت من عباءة (اهل العدل والتوحيد) فكذلك خرجت عدة فرق سياسية وفكرية
من عباءة المعتزلة وشكلت تيارا سياسيا مهما في الشارع العربي الاسلامي في ذلك الوقت بنشاطها النضالي ونشاطها الفكري الرفيع. - - فظهرت فرقة الزيدية يقودها زيد، حفيد الامام الحسين بن علي
بن ابي طالب واعتبرت تيار الثورة ضمن تيار ال البيت. وكان اهم ما في خطابها السياسي هو ما يسمى ب (العقد الثوري)، ومن اهم بنوده :
وجوب ثورة الامة على الظلم والفساد. وزيد هو القائل (الامام من شهر
سيفه)
عدم السكوت على جور الجائر وظلم الظالم لا بالقول ولا
بالفعل، وزيد بن علي هو المردد لقول جده رسول الله (من راى سلطانا جائرا مستحلا لحرمة الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في الناس بالاثم والعدوان، كان حقا على الله ان
يدخله النار.
اشراك الرجال والنساء من غير العرب في ثورة الشارع السياسي
العودة الى نهج الاسلام في قسمة العالم ومن هنا كان للثورة الزيدية
جانبها الاقتصادي الى جانبها الاجتماعي.
اغلاق معسكرات الاعتقال النائية التي كانت مناف وسجون للمعارضة
السياسية كما هو الحال الان في العالم العربي حيث تقام المعتقلات في قلب الصحاري.
وبقيام المنظمة الثورية الزيدية على هذا الوجه، اغتنى الشارع الاسلامي السياسي اكثر من ذي
قبل في مواجهة السلطات غير الشرعية.
مع بداية القرن الرابع الهجري كانت الساحة الفكرية في العالم الاسلامي على استعداد لتقبل
مزيد من الحركات السياسية والفكرية بعد ان كانت التيارات الفكرية الثلاثة التي نشأت على الساحة الاسلامية قد قاربت من نهاية اداء مهمتها وكان لا بد من جديد لتنشيط الفكر ودفع دماء جديدة
في شريان السياسة العربية والاسلامية - - - فالتيار السلفي او ما يعرف باهل السنة والجماعة او باصحاب الحديث بقيادة احمد بن حنبل رفض علم الكلام والتأويل والقياس وخلاف ذلك من ابواب
الاجتهاد، وارتبط بحرفية النصوص كأساس لبناء الحياة – وبذا ضيق الحياة وسبلها بل انه جمّدها في قالب عصر الرسول وانكر التجديد واغلق باب الاجتهاد وعطل الفكر والتفكير وقال بالتلقين .
اما التيار الثاني المضاد فكان تيار الفلاسفة من امثال الكندي والفارابي الذين اتخذوا من
العقل حكما وانشغلوا في صراع وجدل مع السلفيين الذين اتهموا التيار المقابل بالكفر والالحاد - - في حين اعتبره فريق من اهل العقل بانه التيار الذي يمثل يسار الاسلام.
وعندما جاء فريق المعتزلة كفريق
رئيسي ثالث في الفكر العربي الاسلامي حاول التوفيق بين (العقل) و (النقل) او بين الفلاسفة والسلفيين – فطوروا علم الكلام واستخدموا ادوات التفسير والتاويل والتحليل – وكانوا
(وسط). غير ان ابا الحسن الاشعري راى – وهو المعتزل المكين – ان المعتزلة قد بدات تجنح الى العقل على حساب النقل، وان كفة عقل المعتزلة اصبحت هي الراجحة الرابحة في الاحكام ورأى الاشعري
ان المعتزلة لم تعد (الفرقة الوسط) بل انها تميل نحو اليسار وتبتعد عن اليمين – وان السلفيين يزدادون غلوا وتطرفا كما هو حال المعتزلة – فقرر الاشعري ان يقوم بوضع اليمين على اليمين
واعادة الوسط الى مكانه الطبيعي والحقيقي.
لقد جاءت الاشعرية الى الشارع العربي الاسلامي السياسي والفكري ممثلة للوسط الجديد – ومن
المؤرخين من يعتبرون الاشعرية (يمين الوسط) الذي تحرك قليلا نحو اليسار، جامعة بين عقلانية المعتزلة ونصوصية السلفية.
وقد ظهر في هذا التحول مفكرون في الحركة الاشعرية كان ابو حامد الغزالي احدهم .
ولم يقتصر عمل هؤلاء على النواحي الدينية بل تعداها الى النواحي السياسية المهمة في حياة
الامة – فقامت الاشعرية بتقويم اطراف الصراع على السلطة الذي نشب في صدر الاسلام بين خليفة المسلمين الامام علي ومعاوية بن ابي سفيان، وكما ان الاشعرية كانت هي الوسط في الفكر الديني،
كذلك كانت هي الوسط في الفكر السياسي – فكان نهجها الجديد يتوضح في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) للغزالي.
* الشارع العربي لشاكر النابلسي مع التصرف