Back Home Next 

 

آثارنا التاريخية

مقتبسة من كتاب اقنعة الحقيقة واقنعة الخيال لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا

 بقلم د. رضا العطار مع التصرف

alattataronline.com


بارك الله في الأستعمار البريطاني الذي سرق آثارنا التاريخية وحافظ عليها، وبها تعلمت الدنيا كلها - - إلا نحن !


لوعشت في الموصل الحدباء، عزيزي القارئ، عام 1850، وطرحت على شيوخ قبائلها السوأل التالي : كيف سمحتم للأجنبي ان ينهب اثاركم التاريخية، وهي اعز واثمن ما عندكم ! ماذا كان جوابهم ؟

فبعد ان احضر الانكليزي هنري لايارد، الذي كان يعمل في العراق تحت قناع قنصل، مسروقاته الدسمة التي تمثلت في أسدين مجنحين، لكل منهما رأس انسان. اهم اكتشافات آثار الأمبراطورية الأشورية في نمرود بمحافظة نينوى، ابرق الى المتحف البريطاني في لندن، يعلم مرؤوسيه بانه على استعداد تام للقيام بعملية الشحن. وكان هذا القنصل اثناء السنوات الخمس الاخيرة قد ارسل بضعة آلاف من قطع المنحوتات والنقوش المكتشفة في موقع الحفريات للأثار التاريخية لكل من نمرود, ومناطق اخرى من هذه الولاية، التي شاع صيتها في العالم يومذاك. بعد ان عرضت نماذج منها في المتاحف الأنكليزية, وان لم يدخل جيوب العراقيين، اهل (المال)، شئ من المال.

وقد كان لهنري، فيما يبدو، ولع خاص بهذين الاسدين اللذين كانا فيما مضى يحرسان المدخل الرئيسي لقصر الملك العظيم آشور بانيبال في الامبراطورية الاشورية، لأن عثوره عليهما، بجهده الشخصي واصراره وهو لما بلغ الثلاثين من العمر، كان فاتحة لعهد طويل من البحث و التنقيب عن مجاهل كنوز تاريخ العراق القديم، التي بقيت محجوبة تحت طبقات التراب، منذ الأف السنين.

وقد وصف لنا هذا اللص الماهر في مذكراته كيف انه خرج ذات ليلة صاحية مستكينة على فرسه من الموصل مع نفر من اعوانه، الى تل نمرود ليودع الاسدين قبل ان يُرفعا من مكانهما للمرة الاخيرة ويقول :

(كان القمر بدرا, واذ اصبحنا ندنو من حافة جدار التراب المحيط بهما، راح ضوء القمر الناعم يزحف على ما في الرأسين البشريين من تقاطيع صارمة، ويدفع عنهما الظلال القاتمة التي كانت ما تزال تسر بهما. عضوا عضوا جعل الاسدان العملاقان يبرزان من الظلام. الى ان وقفا بكل ضخامتهما مكشوفين للعيان أمامنا.

لن انسى تلك الليلة. ولا المشاعر التي حركها ذلك التمثالان العظيمان في نفسي. بعد بضع ساعات لن يقفا حيث وقفا دونما اذى بين اطلال الأنسان وما صنع لدهور طوال مضت. وبدأ لي اننا نقترف اثما ودنسا بحقهما، إذ نقتلعهما عنوة من مقامهما الجليل، لكي نجعل منهما مجرد صخرة للعجب، تُنصب لجماهير غريبة في عالم غريب.

لقد كان الخراب الترابي حولهما اليق بهما : فقد وقفا يحرسان القصر الملكي وهو في ابهته و جلاله. وكان من حقهما ان يكون القوم، حراس عليهما وهما اطلال وركام.

غير ان الشيخ عبد الرحمن (من عرب البو سلمان) الذي كان قد رافقنا الى تل نمرود، لم تقلقه خواطر كتلك، فقد حدق عينيه متململا في الصنمين الرهيبين, وعجب لجنوننا نحن الأفرنج، وقال لي معلقا : الليله باردة! ولوى جيد فرسه وانطلق نحو مضارب عشيرته).

في هذه الفقرة من قلم لايارد اجد ملاحظتين، ارى انه من الممتع ان نتريث عندهما:

  1. الأولى: نظرة الأوربي المتحرق الى اكتشاف الحضارات القديمة واستكناه سرها، الذي تدفعه شهوة رومانسية لا تغالب الى المغامرة بين الجبال والباديات، بين اناس لا يقرون وجوده بينهم الا كضيف، له عليهم حق الغريب. بحثا عن تمثال او نقش يستهويه غموضه، ويتحداه قِدمه، في ظلام الليل وقرص البرد، عندما يرتفع القمر ويغمر ضياؤه الفلوات والتلال الجرداء، يتأمل أسدين من حجر أخرجهما من بين الخرائب التي طمرتها القرون المتعاقبة بالتراب، نحن هنا في شمال العراق، في منتصف القرن التاسع عشر، وقد جعل العثمانيون يرسلون الولات، والي بعد والي للتحكم برقاب العراقيين في ابتزاز اموالهم وخيراتهم, علما انهم ارسلوا خلال الفترة المحصورة بين عام 1845 الى عام 1918 اثنا وستين واليا الى ولاية الموصل. كلهم كانوا فاسدين. لم يحاول احدهم يوما ان يتأمل حجرا او يفكر قليلا ليفهم ان لهذه الأحجار كانت في القديم حضارة انسانية مزدهرة شامخة، قامت حين من الدهر ثم آلت الى الزوال واندثرت, انهم كانوا لا ينسون ابدا ان يقولوا لهذا الأفرنجي :
    ( خذ ما تشاء من اصنام الجن على ان تبقي لنا ما تجده من ذهب ) ! .

    الأوربي يتمعن ويتأمل، تعصف بخياله الصور، ذهنه يضطرم على عدة مستويات، يرى الفتنة والعبرة معا في اسدين منحوتين، كانا يحرسان المجد و الكبرياء. ومن حقهما ان يبقيا حارسين (وضوء القمر في الفلاة يثير خواطر هوجاء لذيذة) بين اطلال العز والكرامة, لكنه يعلم انه سيقترف ذلك الاثم الذي لا بد منه – اقتلاعهما من مكانهما – ونقلهما الى ارض غير ارضهما وشعب غير شعبهما، فالوطن القادم غير وطنهما، لا شئ يربطهما به، مكانهما هو الموضع الذي نبتا منه، خرائب الأمبراطورية الأشورية، لا في ديار غريبة، تبعد عن مسقط راسيهما الاف الكيلو مترات، داخل زجاج مكبوس. لكن لايارد فكر بأتجاه آخر واعتقد ان هذا (الصنم) في لندن سوف يلقي انواره على العالم اجمع، يذكره بفترة من فترات التاريخ الزاهر، لحضارة وادي الرافدين.

  2. اما النظرة الثانية : هي نظرة الشيخ عبد الرحمن : اصنام رهيبة يرفض ان يرى فيهما اي معنى، سوى اللهم المعنى الخارق الذي لن يشغل نفسه به، ففي اعتقاده انه ضرب من عمل الجن. ولا يستطيع ان يفقه كيف يمكن ان يكون الحجر مصدرا للمعرفة والحكمة، وانه يرافق هذا الشاب الأفرنجي الغريب الذي يكن له التقدير لكنه لا يفهم هذا الجنون في ولعه بهذه الحجارة التي هجر اهله من اجلها ليعمل على نبشها في زمهرير الشتاء وهجير الصيف، وعلى حملها اخيرا بكدح مئات من الرجال، لتحميلها في زوارق كبيرة على متن مياه نهر دجلة الى البصرة, حيث ينتظره هناك المركب القادم من الهند. الذي سيدور به حول راس الرجاء الصالح في القارة الافريقية عابرا المحيطات ليبلغ محطته الاخيرة النائية. انه يرفض ان يطيل التأمل في أمر يكاد يقلقه, يخرجه من سيرته اليومية. (الليله بارده !) واطالة النظر الى هذه الحجارات في ضوء القمر الذي صنعه الله لأمور أخرى, عبث لا طائل وراءه. لهذا يركب الشيخ فرسه التي يعشقها, ويلوي جيدها وينطلق بها مخترقا فيافي الليل الى مضارب العشيرة. المتعة في تأمل النسوة, لا في تأمل الحجر ! .

 

ولسوف تمر على تلك الليلة اجيال, قبل ان يقف احفاد الشيخ عبد الرحمن أزاء ما يكتشفون وقفة، كوقفة الأفرنجي لايارد، يتنازعهم الصراع النفسي بين الموقفين .... لكن ستين سنة كانت كافية لنهب معظم كنوز البلاد التحتية تحت سمع الناس وبصرهم، لتغني متاحف الدنيا، وتغني التاريخ، وتغني منظور العراق الزمني، تشعرنا بفداحة ما خسرناه من آثار العبقرية في هذا الوادي العظيم .


(اقنعة الحقيقة واقنعة الخيال لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا) مع التصرف