Back Home Next 

 

الشعر الاسلامي وتأثيراته الروحية على تهذيب خلق الانسان

(ما يعد به الاسلام) للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي مع التصرف.

 بقلم د. رضا العطار

alattataronline.com

 

إن الادب الاسلامي الذي كان معظمه شعرا منذ نشأته، هو اساسه أدب نبوئي يستوحي القرآن. وما يعنينا هنا ليس تاريخ هذا الادب وانما مضمونه العام وما اعطاه مدى عشرة قرون وما سيسهم فيه الان على صعيد بناء مستقبل جديد.
كانت المعلقات في صدر الاسلام تصف حياة البدو الرحل في ملحمة رحيلهم الدائم وتشردهم الذي لا ينقطع الى جانب تصوير الحياة القبلية الصحراوية والفخر الممتزج بوصف المعارك. لكن الاسلام غرس فيها بذور انقلاب جذري على مستوى الانسانية الشاملة، وقد اعطى للتيار الشعري تلك الرؤيا النبوية التي ستستمر في رفده بالالهام. وفي ايامنا هذه تنير الرؤية النبوية درب الشعر بقلقه وهمومه ومطامحه وتطلعاته.
والحق انه ما من قصيدة اسلامية لا ترى فيها استرجاعا لمضامين القرآن وتذكيرا لها، كما جاء في سورة آل عمران وسورة الرعد : ( فإينما تولوا فثم وجه الله ) و ( ويسبح الرعد بحمده ).

لقد وصل هذا النوع من الشعر العربي (الصوفي) الى الغرب عن طريق المسلمين في صقلية والاندلس والحملات الصليبية التي يقول عنها (ستاندال) في كتابه (في الحب) إذا اردت البحث عن الحب فانك ستجده تحت الخيمة البائسة التي يسكنها العربي البدوي. ويضيف قائلا :

(لقد كنا – نحن الغربيين – برابرة في نظر الشرقيين حينما ازعجناهم في حملاتنا الصليبية. ولذا نحن مدينون الى المسلمين وعرب اسبانيا بكل ما هو نبيل في عاداتنا وتقاليدنا.

ان الحب والجمال في الشعر الاسلامي يهبان القدرة التي تقود الى معرفة الحقيقة - - ومن خلال هذه النقلة تتغير نفوسنا - - ذواتنا، لان الطريق الاسمى للوصول الى الله ان نطرح انانيتنا ونتخلى عنها - - ونحن حينما نحب كسر طوق الانانية الذي يكبلنا، ننفتح على (الاخر) بلا حدود. ان هذا الايثار المشوب بالعطاء والتضحية هو السر الاكبر في شعر الشرق الاسلامي.

وقد يرى اؤلئك المولعون بالتفسيبر الميكانيكي للعلاقات القائمة بين البنى التحتية والبنى الفوقية مفارقة كبيرة، إ ذ ظهر الشعر العاطفي لدى القبائل البدوية الفقيرة في الجزيرة العربية، ثم برز في بغداد حيث الترف والبذخ في ظل الخلافة العباسية، ثم ظهر اخيرا مع ابن حزم في الاندلس في زمن كانت فيه الخلافة في قرطبة تؤول الى الزوال. ان هذا اللون من الشعر الذي لم تعرف الحضارة الانسانية اسمى وانبل منه راح يسترعي اهتمام الثقافة الغربية قرونا عديدة - - والحضارة العالمية باسم الاسلام. بعدها خيم على الحضارة الاسلامية صمت رهيب دام ما يقرب من خمسة قرون، فلقد جثم الاستعمار التركي بتسلطه البغيض واعقبه الاستعمار الغربي الخانق. وكانت تشق هذا السكون اصوات بعض الفلاسفة الفرس منهم الشيخ صدر الدين تلميذ ابن عربي.

ولم يشهد الادب العربي الاسلامي نهضة تحررية إلا اواسط القرن التاسع عشر في مصر التي عرفت نوعا من الاستقلال النسبي حيث استطاع بعض المفكرين الهرب من نير الدولة العثمانية. اما الشعر فقد بدأ نهضته في مطلع القرن العشرين في الولايات المتحدة حيث عاش مبدعو الشعر العربي المعاصر بعيدا عن الاستعمار الانكليزي والفرنسي.
ونحن هنا لسنا بصدد كتابة التاريخ الادبي لعصر النهضة الاسلامي في القرن العشرين بمدارسه وتياراته وادبائه، وانما يعنينا ويهمنا ان نشير الى قضية اساسية ملحة تطرح نفسها وهي ان الشعر اصدق من التاريخ - - انه مشروع انساني يعطي كل حقبة تاريخية معناها من خلال مشروع مستقبلي هو في حالة صيرورة وولادة.

لقد اطلنا في الاستشهاد لما يحمله الكلام في المقال السابق من مغزى، فلأول مرة منذ ان طرح الفيلسوف ابن عربي مشروع (حوار) بين الحضارات، حوار يبلور لدى الناس وعيهم بتاريخهم المشترك ضد كل الافكار (القومية) الاقليمية والانقسامات الدينية والادعاءات التافهة القائلة بان شعبا ما هو شعب الله المختار او بان حضارة ما هي الحضارة التي لا يُعلى عليها - - - حوار يتيح لنا العودة الى تلك المشاركة البناءة المخصبة في بناء (شعب ) واحد، شعب الارض قاطبة. هكذا سيكون الهم الاساسي في الشعر هو التبشير بالحياة المفيدة المثمرة سواء على صعيد الاسلام او على صعيد
الانسانية جمعاء - - فالاسلام ما هو الا حقبة مشرقة مجيدة في ملحمة الانسانية.


وتلك هي المهمة التي اضطلع بها جماعة (تموز) عام 1945 وعلى رأسها (بدر شاكر السياب). وتستوحي هذه الجماعة التوراة والانجيل والقرآن في توجًهها الى اعمق جذور التاريخ. وما شعر (السياب) الا اغنية للعودة تتأصًل وتمتد في عمق الارض العربية، هذه الارض التي هي أم الشاعر وامرأته وينبوعه في آن معا، يقول السياب :

فيدلهم في دمي حنين

 

اجراس موتي في عروقي ترعش الرنين

اود لو عدوت اعضد المكافحين

 

اعماق صدري كالجحيم يشعل العظام

اود لو غرقت في دمي الى القرار

 

اشد قبضتي واصفع القدر

وابعث الحياة إن موتي انتصار

 

 لأحمل العبء مع البشر


وفي عام 1954 يعود شاعر آخر الى اسطورة (تموز). ان علي احمد سعيد الذي اتخذ لنفسه اسم إله قديم، اسم (اودنيس) - - كتب الشاعر اودينس يقول : (ارضنا في الوقت الراهن ارض المتناقضات، فنحن نبشر بالحرية ولكن لا نمارسها - - لقد تحررنا من العبودية الخارجية لنقع في احضان عبودية داخلية - - إن ارضنا ليست (الارض اليباب)، وإنما ارضنا فوق ذلك هباء وفوضى - - لكننا نلحً على الرغم من هذا ومضة تلمع - - نحن بحكم وجودنا ذاته جزء من المغامرة الروحية الكبرى التي تبني تاريخ الانسان ومجده - - فإذا قال الشاعر (سان جون بيرس) : انا اسكن البرق، فالشاعر عندنا يمكن ان يقول : انا اسكن الرؤية.

انني مبعثر ولا شيء يجمعني

 

ومع ذلك لا شريان عندي لهذا العصر

اعيش خفية في احضان شمس تأتي

 

اخلق شهوة كلهاث التنين

اخرج واكتب اسفار الخروج ولا ميعاد ينتظري

 

احتمي بطفولة الليل تاركا راسي فوق ركبة الصباح

إنني نبي وشكًاك


ولكن في (قلب) شعراء هذا القرن يكمن بعث الحياة في روح (النبوءة)، تلك النبوءة التي لا تشك بل تبشر وتستشرف، تناشد وتنادي وتبدع - - انها نبوءة ذلك التراث الاسلامي الرفيع. ان هذه الرؤية التي هي روح الشعر ونسغه تحمل في نفسها بذور الثورة في اجلى معانيها كما تحمل عناصر التحول الكليً لدى الانسان.
تنتقل النبوئية نفسها لكي تناشد الانسان ان يكون (خليفة الله على الارض) - - وفي هذا الصدد كتب محمد اقبال من باكستان في بدايات القرن العشرين يقول :

وانا صنعت المصباح

 

لقد خلقت الليل يارب

وانا صنعت الكأس

 

ولقد خلقت الطين

وانا صنعت الممشى والحديقة والبستان

 

ولقد خلقت الغابة والجبل والصحراء


كما كتب محمد اقبال في معرض تعليقه على (الديوان الشرقي – الغربي) لمؤلفه الشاعر الالماني (غوتة) قائلا :
( يبرهن هذا الديوان عن ان الغرب الذي – قرف – من روحانيته الهزيلة الباردة، بدأ الان يبحث عن روحانية حارة حية في حضن الشرق) - - - وما رسالة غوتة، كما يراها (اقبال) إى دعوة ملحة دائمة لأيقاظ الشعوب النائمة. ولقد لعب الشاعر دائما دور الموقظ المنبه، بدأ من جلال الدين الرومي الذي يرى الحياة عملية ارتقاء من (الحيوانية) الى (الانسانية) الى الله.
كما يرى الفيلسوف الالماني (نيتشة) الانسان مسهما في عملية الخلق ومدعوا الى ان يتجاوز وضعه الانساني.
ان يقظة الشرق تضرب بجذورها في عمق التاريخ - - وستكون يقظة البشرية قاطبة.

وحينما يتأمل (اقبال) جامع قرطبة يلخص الرؤية الاسلامية للزمن ويشير الى التزاوج والاقتران بين ما هو زائل وما هو أزلي دائم، يقول الشاعر مخاطبا (قرطبة) :

اين ايامك ولياليك يا قرطبة ؟

 

انما ايامك ولياليك تدفق الزمن

دون ليل نهار

 

لقرطبة لون الازلي الابدي

انها صنيع الانسان المؤمن

 

يا جامع قرطبة

ان الحب منبع وجودك

 

ولن يقدًر للمسلم ان يزول


فدعوته تحمل في قلبها اسرار موسى وابراهيم
ان ارض المسلم لا حد لها - - وآفاقه بلا ضفاف
وما دجلة والدانوب والنيل
الا موجة من بحره الزاخر


كان (اقبال) يحلم بان يوجه قوى الحياة من الضفة الاولى الى الضفة الثانية، وها هوذا يستلهم (الرومي) فيقول : لقد اتجه الشرق بانظاره الى الله ولكنه لم ير العالم. ونفذ الغرب الى عالم المادة، ولكنه ابتعد عن الله. وما الايمان الا ان نفتح العيون على الله، وما الحياة إلا ان ننظر الى انفسنا بدون حجاب.
ان الشعر الاسلامي المعاصر يبحث عن قصيدة (الفداء) - - قصيدة توفق بين الله والتاريخ وتوحد بين الآني والازلي، وتجمع الواقع بالحلم، وتزاوج ما بين التراث والحداثة.
لقد ادرك هذا الشعر انه اذا كان في التراث حل لمشكلات قد يتجاهلها البعض فإن القضية الواجب طرحها هي قضية المنظور الذي يأخذ بالايمان والنبوءة.
واذا سمحنا لانفسنا باستباق احداث التاريخ والسياسة وتجاوزها بنظرة مستقبلية فان هذا الشعر يقول لنا : الشرق والغرب ما هما الا عضوان في جسد واحد، فما عليهما الا ان يوطنا نفسيهما على العيش معا في مستقبل واحد. واعتقد الاسلام ذلك، واعتبره هو البداية والمنبع. لكن اوربا انكرت الاسلام الذي اوجدها.
وها هوذا الشاعر العربي يستفيد اليوم من تراثه الاسلامي، وما على الغرب الا ان يدرك انه يحتاج الى الف عام من (الاسلام) الذي جحده ليصل تراثه المسيحي بحاضره فيردم تلك الهوة السحيقة التي يجلس الغرب على حافتها نادبا همومه وضيقه وازماته.
ولقد طرح الشعر العربي – الاسلامي المعاصر قضايا ومشكلات تاريخية وسياسية قبل ان يطرحها التاريخ والسياسة.
* (ما يعد به الاسلام) للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي مع التصرف.