Back Home Next  

 

ألا تعتقد، ان للنخلة احساسُ، اكثر من مجرد اسم ؟

نخلة، تدعى (كورانية)

بقلم د. رضا العطار


 

لو استعنا بمحرك البحث (كوكل) لمعرفة تاريخ النخيل، لصُدمنا بالخبر الذي تعلنه البعثة العلمية للتنقيب في اعماق المحيطات (Iodp )، بان اشجار النخيل كانت تنمو في القطب الشمالي قبل حوالي 50 مليون سنة ، وانها اكتشفت متحجراتها في خليج هودسن بتاريخ 1،8، 2012 .

اقول: لو اننا توثقنا بهذا الخبر العلمي المثير، معنى ذلك ان عمر هذه النخيل، جاء متزامنا ومرحلة تكوين الارض، حينما كان المناخ في القطب الشمالي ساخنا ـ ـ والمعروف ان اشجار النخيل في الوقت الحاضر لا تنمو الا في المناطق الحارة من الكرة الارضية !.


النخلة هي الشجرة الوحيدة التي يستفاد من جميع اجزائها بدون استثناء : ثمارها، نواها، ليفها، جذعها، سعفها، جريدها، فجميعها ذات فوائد للانسان، لا تنافسها فيها اي شجرة اخرى . . النخيل انجمُ الأرض، فهي زينتها، وملكة الجما ل فيها.

التمر، هو ثمر النخيل، يحوي على مجمل المواد الغذائية الاساسية التي يحتاج اليه الانسان، كالسكريات والبروتين والدهون، فضلا عن احتوائه قرابة عشرة انواع من المعادن والفيتامين.
كان الصينيون القدماء يطعمون اسرى حروبهم بالرز فقط، ليقضون نحبهم بعد اسابيع معدودة، لكن اذا اطعموهم تمرا، عاشوا سنة او اكثر



ومنذ القدم اشاد شعراء العرب بمقام النخلة وفوائدها المتعددة، وقد جاء في طب القدماء العرب ان لطلع النخيل مزايا كثيرة، وزعموا انه يقوي الجهاز الهضمي، ويسكًن ثائرة الدم، ويقضي على ضيق التنفس. بينما يؤكد الطب الحديث ان غبار الطلع يهدأ الاعصاب، ويعالج هشاشة العظام، و ينشط عند المرأة تكوين المبيض وينظم عندها دورة الطمث، ويكافح الضعف الجنسي عند الذكور.

ان اكثر مناطق العالم اكتظاظا بالنخيل وباجود انواعها، هو ارض الرافدين. فالنخلة هي هوية العراق وعنوان عزه ورمز حضارته، فشعار الدولة العراقية في العهد الملكي كان متوجا بصورة النخلة، منذ عام 1921 ! .

يناظر المواطن العراقي النخلة، في كثير من صفاتهأ ، فهي دائمة الخضرة، يانعة، لا تتساقط اوراقها ابدا، تقف امام عاتيات الزمن، صامدة صابرة، لا يهزها عنف الاعصار ولا تزحزحها كثرة الرياح، مهما حملت في ثناياها من قوى البطش والظلام، فجذورها راسخة في اعماق ارضها الطيبة، كما يرسخ حب الوطن في عقول افراده الاغيار، انها تعلوا في السماء شامخة، مجلجلة بعناقيد الثمر، فكلاهما : العراقي والنخلة، يفيضان بخيراتهما على الاخرين. ويستقيان سر وجودهما، من ذات العطاء الرباني ـ المتمثل في الهواء والتربة والشمس ونهري دجلة والفرات.

ومنذ العهد الذي سبق حضارة سومر ولحد الان، كانت النخلة عند العراقيين مصدر غذائهم ومادة خام لصناعاتهم اليدوية الاولية، فمن جريدها صنعوا الكراسي للجلوس والاسرة للنوم والاقفاص لحمل البضائع، كما صنعوا من خوصها الحصران والستائر والسلال والمراوح وغيرها، مثلما استعملوا جذع النخيل لبناء سقوف منازلهم، و ان نبينا محمد (ص) الذي بنى المسجد الاول في الاسلام في مدينة يثرب في العام الاول للهجرة، كان سعف النخيل وجذوعها ضمن أدوات البناء الاساسية، فضلا عن ان المنبر الاول في الاسلام الذي صنعه الرسول بيديه، كان من الجريد (د. حسين مؤنس)

كانت النخلة عند الاقوام القديمة في المنطقة العربية مقدسة، ترمز الى الهة الحب والولادة عند الفراعنة، مثلما كانت ترمز الى اله عشتار لدى البابليين.

اما في العهد الجاهلي، فكان اهل نجران في الجزيرة العربية، يعبدون النخلة بعد ان يكسوها بالملابس النسائية، لكن قبيلة حنيفة كانت تصنع صنمها من التمر، تأكله عندما يلم بها الجوع.

وعندما بزغ فجر الاسلام، وظهر القرآن، جاء في سورة مريم إشارة الى ولادة السيد المسيح تحت جذع النخلة. كما جاء في حديث الرسول (اكرموا عمتكم النخلة).
وقد رُسًخت هذه العبارة في الفولكلور الشعبي العراقي. والمعروف عن النساء العراقيات انهن يجزعن عند سماعهن صرير قطع النخلة . . .
فكيف كان حالهن عندما كان صدام يقطع رؤوس النخيل في مناطق الاهوار في الثمانينات في جنوب العراق، لملاحقة معارضيه الكُثر ؟
يظهر ان الطاغية كان لا يعلم، ان للنخلة العراقية (حوبة !)، وانها ستلاحق ظلًه وتقاصصه يوما، وهذا ما حدث عام 2003 !.

تدعى النخلة في العبرية تمارا. وفي السومرية (كشي مار)، واسم تدمر مشتق من التمر، وان لفظة (ثمر) محورة من لفظة (تمر).
وفي التوراة، شبه اليهود في نشيد الانشاد النخلة بالمرأة !
( قامتكِ شبيهة بالنخلة، وثدياك كالعناقيد، قلت اني اصعد الى النخلة وامسك بعنقوقها). ويقول (بارتون) في كتابه (الاصول السامية والحامية) ان النخلة كانت آلهة عربية. تدعى عثير، وكان العرب يعتبرون روحها صديقتهم.
والتمر في السومرية يدعى Zulumma وفي الاكديةSuluppu

ويقال للتمر الذي لا نوى فيه بالعراقية الدارجة (شيص) وهي من الاكدية (شوصو) ومن الارامية (صيصن) اما الفسيلة الصغيرة التي تقطع من أمّها لتغرس في مكان آخر تدعى بالسومرية Gishimmar وبالاكدية DuDu وبالارامية Taalum وبالعراقية، تالة. وما يزال العراقيون يطلقون على الحبل الذي يحاك من ليف النخيل يستعملونه في ارتقاء النخلة (تبلية) وهي في الارامية (توبولية) وفي الاكدية (توبالو)، وقد عثر على نقش في احدى منحوتات تل خلف الاثارية على صورة للتبلية، جاء ذكرها في ادب المؤرخ الروماني (بلينوس)، وقد وصف كيف ان التبلية يستفاد منها لصعود النخلة في موسم الحصاد. هذا ما جاء في (جولة في عالم الاسطورة واللغة) لمؤلفه علي الشوك.


واستكمالا للحديث اروي للقارئ الكريم هذه الحكاية :

كانت لنا في البستان بكربلاء في ماض الايام نخلة، تدعى (كورانية). كان طول ثمرها خمسة سنتيمترات، قهوائية، غامقة اللون ، لمًاعة خشنة الملمس، رطبها لذيذة، عذب المذاق، صادق الحلاوة، لا نظير له. واذكر اني قدمت يوما لصديق لي في بغداد مقدارا منه مع علمي انه كان بحوزته البوم مصور لجميع اصناف التمور في العالم، وبعد ان شكرني عاد في اليوم التالي ليخبرني بان البومه يخلو من النوع الذي اعطيته اياه، إذ انه لم يجد في مجموعته ما يشبه هذه الفاكهة، لا في شكله ولا في لونه المتميز.

وعندما عدت الى العراق من المانيا بعد اكمال الدراسة عام 1964 اخبرني المرحوم والدي ان وزارة الخارجية العراقية كانت قد اتصلت به عام 1959 تسأله فيما اذا كان ممكنا ان يزور الملحق التجاري في سفارة الصين الشعبية في بغداد، بستانه في كربلاء كونه يرغب في مشاهدة وتصوير نخلة مخصوصة موجودة هناك . . . واضاف : دهشتُ كثيرا، كيف انهم عرفوا ذلك ؟ لكنني لبيت الطلب بكل سرور ورحب بالضيوف.

كانت هذه النخلة معبودة والدي. سمعته يوما يقول لضيوفه : (انني اشعر ازاء هذه النخلة بأحساس غريب، وكأن روحي مرتبطة بها بشكل ما) . . . وفعلا انه كان كلما خرج الى البستان متنزها، لم يغب عن باله ان يذهب الى نخلته متفقدا، يتطلع قامتها الرشيدة – وهي الاطول بين رفيقاتها – متأملا صورتها المهيبة وخضارها النضر، يشعر بقربها السكينة و راحة النفس.

وقد تفهمت مشاعر والدي تجاه هذه النخلة ـ بعد ان رحل الى بارئه عام 1967.
إذ لاحظت بعد فترة ان بوادر الذبول بدأت تظهر على النخلة (المقهورة) بصورة جلية، فقلًت نضارتها تدريجيا حتى غدت بعد شهور شبه شاحبة، وعندما حان موسم الحصاد توقفت نخلتنا العزيزة عن العطاء، وظهر عليها علامات الهزال ثم ماتت بعد حين . . .
أفلا يحق لي ـ بعد هذا ـ ان اعتقد ان للنخلة احساسُ، اكثر من مجرد اسم ؟